لا أنكر أننا جميعاً نحمل لهيكل إعجاباً حينما يُعمِل عقله كمحلل في محاولته لاستجلاء ما وراء ضبابيات الممارسة السياسية، لكننا نشعر بالاستياء عندما يخرج هيكل عن براجماتيته ويبدأ في دس السم في الدسم ومحاولة الإساءة لمن يختلف معه في الرأي أو لا يتفق معه في الرؤية أو التوجه السياسي. هذا المثلب الذي يعلمه ويعيه من يعرف هيكل عن قرب أو من قد تتبع سيرته الذاتية وبعض المحطات المهمة في حياته المهنية والسياسية هو الأمر الذي عجّل بالقضاء على ما تبقى من مصداقية الرجل، فمحمد حسنين هيكل قد اشتُهر بعضِّ اليد التي تمتد إليه بالإحسان،ولم يعد هذا الأمر جديداً على شخصيته. فالتاريخ يذكر أن مصطفى أمين مؤسس «الأخبار» و«أخبار اليوم» المصريتين هو من قدّم هيكل لجمال عبدالناصر عقب ثورة 23 يوليو 1952م. يومها كان هيكل صحفياً مغموراً، ولو تحرّينا الدقة سنقول بأنه كان حينذاك لايزال نكرة في بلاط صاحبة الجلالة. ولكن حينما اختلف مصطفى أمين مع عبدالناصر ودُبرت له تهمة التخابر مع الغرب، ظهر حينذاك الجانب المظلم والسيئ من شخصية هيكل. فكان أول من سارع لتأجيج النار على مصطفى أمين وسعى جاهداً للتقرب من عبدالناصر كي يضمن حصوله على مكاسب ذاتية ويكون خليفة مصطفى أمين على عرش الصحافة في مصر. وحقيقة، فقد نجح هيكل في مسعاه واستطاع أن يكون المستشار الإعلامي لعبدالناصر ومن يكتب له خطاباته السياسية، بل كان عبدالناصر -أحياناً- يستشيره في أدق الأمور المتعلقة بالشأن السياسي المصري. وكي يضمن هيكل لنفسه بقاء هذه المكانة والسلطة، فقد رأى أنه لابد أن يبقى مصطفى أمين في معتقله، لذا فقد عمل جاهداً وبالخفاء كي يبقى مصطفى أمين -الرجل الذي كان له الفضل بعد الله عليه- مسجوناً لأطول فترة ممكنة، أو أن يخرج من المعتقل إلى القبر مباشرة. انتهازية هيكل السياسية وعضُّه اليد التي تحسن إليه، هو أمر قد صاحبه حتى بعد انقضاء العهد الناصري وجرّب أن يمارسه مع مناوئيه. وهو في تقديري الأمر الذي جعل الرئيس أنور السادات ينفر منه ويعمل على إزاحته مع باقي مراكز القوى في مصر حينذاك كسامي شرف مدير مكتب عبدالناصر وشعراوي جمعة رئيس الاتحاد الاشتراكي وعلي صبري وآخرين. وهو الأمر الذي أغضب هيكل وجعله يؤلف لاحقاً «خريف الغضب»، حيث عمد إلى ملئه بالأكاذيب بحق العصر الساداتي، ويدعي أن نصر العرب في حرب رمضان لم يكن سوى فقاعة عسكرية بدليل حدوث الثغرة. ومن الأمور العجيبة في شخصية هيكل الحقيقية أنها إذا تبطنت على الحقد فإن حقدها سيكون سرمدياً، بدليل أنه حاول أن يسيء إلى باقي أفراد عائلة السادات حتى بعد رحيله، ومنهم زوجته جيهان السادات التي اتهمها برفضها مرافقة جثمان زوجها في الطائرة التي نقلته بعد اغتياله في حادثة المنصة الشهيرة، وأنها سارعت إلى منزلها لتخبئة مجوهراتها ومقتنياتها الثمينة هي وباقي أفراد الأسرة، إضافة إلى مزيد من الافتراءات. أي أن حقد هيكل على السادات كونه أعاده إلى حجمه الحقيقي وكشف خداعه وانتهازيته، قد جعله يسعى إلى النيل من باقي أفراد عائلته عبر العمل على تشويه سمعتهم والانتقاص من قدرهم وكأنه يرى في انتقامه منهم انتقاماً من السادات حتى بعد رحيله. إن استغلال هيكل مكانته كمؤرخ وصحفي في الدس لخصومه والتأجيج عليهم عبر تضمين كتاباته أكاذيب واختلاقات بحقهم -كما جرى في حق العصر الساداتي- هي من الأمور التي جعلت المثقف العربي ينفر منه وأفقدته مصداقية لدى القارئ، ومن هنا فلم يعد المؤرخ المنصف يركن إلى مؤلفات هيكل أو يتعامل معها باعتبارها مرجعية علمية لا غبار عليها. وهو الأمر الذي دعا عديداً من المهتمين والمختصين في أدبيات التاريخ والسياسة إلى مراجعة المراحل التاريخية العربية التي كتب عنها هيكل، فتم اكتشاف حجم هائل من المغالطات التاريخية والأكاذيب التي اجترحها هيكل بحق خصومه وخصوم العهد الناصري على حساب المصداقية العلمية. وفي الوقت الراهن ومع حضور المتغير السياسي من تاريخ الأمة العربية، وتنوع مصادر المعرفة واطلاع الأجيال الحالية على تاريخها السياسي في صورته الحقيقية والصادقة، فلم تعد لهيكل أو لإنتاجه الفكري تلك القيمة العلمية أو حتى يُنظر إليها ولو بشيء يسير من التقدير. فولّد هذا الأمر لهيكل أزمة نفسية حادّة، وجعله يبدو كالمسعور، فصبّ جام غضبه على الجميع وسعى لشتم وانتقاص الكل، خاصة دول الخليج التي عرفته على حقيقته منذ أوائل الستينات من القرن الميلادي المنصرم وكشفت زيفه وتزلّفه للنظام الناصري على حساب ومصالح الأمة العربية والإسلامية. حقيقة، جميعنا نعي جيداً أن هيكل لم يعد رجل المرحلة، فالرجل قد فقد بريقه واستُهْلك وهرم. بل غدا متخبطاً حتى في أقواله وفي تحليلاته التي أصبح يداخلها كثير من الخيال واللاواقعية، بل ويحمّلها كعادته كثيراً من الأكاذيب والتجريح للخصوم. فوجدناه منذ أيام قلائل يُدلي بحديث لجريدة «السفير حوى» في مجمله عديد من المغالطات والإساءات للمملكة ولرموزها، ومن المثير للغثيان عند قراءة هذا الحديث أن هيكل لم يكن موضوعياً على المطلق، بل قد بدا فيه وكأنه شتّاماً ليس إلا! أي أن هيكل قد أضاف إلى سماته السلبية التي اشتُهر بها والتي عرّته أمام الرأي العام العربي وفضحت زيفه وانتهازيته، صفة أخرى هي بذاءة اللسان. وهو الأمر الذي قضى على بقايا مصداقيته وجعله لا يفرق عن رجل سوقي يقطن في إحدى عشوائيات القليوبية مسقط رأسه. إن المملكة قيادةً وشعباً لم تتأثر ولن تتأثر بمثل هذه التصرفات أو السلوكيات السلبية أو الإساءات، سواء من هيكل أو من غيره، بل هي تعي جيداً أن كونها دولة تحتل واجهة العالم العربي وتملك ثقلاً نوعياً سيجعلها عرضة لكثير من الإساءات ومحاولات الانتقاص من رموزها، ولكنها ستواصل مسيرتها في سبيل خدمة الإسلام وتعزيز التضامن الإسلامي بين أبناء الأمة العربية والإسلامية، وقديماً قال العرب (إن القافلة تسير والكلاب تنبح).