نسميه زمن الغرق العربي. ثمة من يغرق في الماء، ومن يغرق في الدماء، وثمة من يغرق في.. الهواء. لقد تصدعت الجدران فوجدت الرياح الصفراء ممراً إلى البيت، وعصفت بالفراش الوثير والفراش الفقير،.. ولم يعد أحد آمناً على.. وطنه. وحين تخرج من وطنك يفتح البحر فمه، يبتلعك ويدعو أسماك القرش لوليمة من لحم أطفالك وبقايا عظامك، وإن بقيت لا تدري من أين يأتيك الموت، من برميل متفجرات، أو من قذيفة عمياء أو من ماء تجمد في حلق الأنابيب وأصاب شرايينك بصدأ قاتل. لكأننا أمام مشهد عبثي، يصبح فيه الموت وسيلة للنجاة، والقبور تحفر في الماء، ولا ندري من القاتل ومن القتيل! في عام 1953 كتب الفرنسي الموطن، الإيرلندي الأصل، صاموئيل بيكيت (1906-1989)، مسرحية سماها (في انتظار غودو)، اتسمت بغموض الفكرة، وعدم وجود عقدة تقليدية، وانعدام الحل لما عرضته المسرحية، فكانت رمزية مبهمة للغاية، ولوحظ قلة عدد المسرحيين الذين مثلوها، وكان الزمان والمكان محدودين تقريباً، وتركت المسرحية سؤالاً طالما سعى النقاد في البحث عن غودو. من هو؟ هل سيصل؟ متى سيصل؟ ماذا سيفعل أو يقدم؟ وحتى اليوم، فإن الجدل قائم بين النقاد، وإن كان أغلبهم يرجح أن غودو لن يصل. ومنذ أن توفي في عام 1989، ترك صاموئيل بيكيت خلفه ظاهرة أدبية وفنية مهمة ومؤثرة ومثيرة للجدل، اسمها العبث أو اللا معقول، وقد جاء تمرد العبثيين على المدرسة التقليدية العريقة، التي أرسى قواعدها أرسطو، واضع أسس النقد الأدبي للمسرحية الجيدة، ومحدد عناصر نجاحها في ثلاثة، هي: الزمان والمكان والحدث. العبثيون بدورهم ضربوا عرض الحائط بأرسطو وكتاباته ومنهجه وكل تاريخ المسرح، فتنكروا للعناصر الثلاثة المذكورة، وقرروا أن تكون كتاباتهم في مكان محدود جداً، كشجرة (مسرحية في انتظار غودو)، أو كغرفة (مسرحية الغرفة)، أو كرسي (كمسرحية الكراسي)، وجعلوا عنصر الزمن غير ذي أهمية تذكر، أما العقدة أو الحدث، فلم يجعلوا لها وجوداً في مسرحياتهم. يسجل التاريخ الآن، وهو يسخر من الإنسان على هذا الكوكب، كيف تلفظ الأوطان أبناءها، وتلقي بهم بطن الحوت أو في شاحنة مخصصة للحوم الحيوانات ليموتوا اختناقاً. فقد ذكّرتنا مأساة المهاجرين، وأكثرهم سوريون، والذين ماتوا اختناقاً في شاحنة لنقل اللحوم في النمسا، برواية غسان كنفاني رجال في الشمس، لكن القصة هنا تبدو أكثر مأساوية بكثير، فهي لا تتعلق بثلاثة أو أربعة أشخاص.. كما في الرواية، بل أصابت حوالي سبعين شخصياً، أكثرهم من النساء والأطفال. كنفاني ترك سؤاله معلقاً في نهاية الرواية لماذا لم يدقوّا جدران الخزان؟، فيما نعلم أنهم لم يفعلوا لأن أمل الحياة بقي موجوداً حتى اللحظات الأخيرة، بينما لم يكن الموت مخيفاً إلى ذلك الحد الذي يستحق الفرار منه، إذ يحدث أن يكون أفضل من الحياة. لم نكد نلملم وجع أرواحنا من القصة الأولى، ونتابع الصور المأساوية، حتى داهمنا خبر آخر عن غرق ما يزيد عن مئة مهاجر في السواحل الليبية، وهي الحصة الجديدة التي يبتلعها البحر الأبيض المتوسط من العرب الهاربين من الموت قتلاً، إلى الموت غرقاً، وهو ذات البحر الذي ابتلع ما يزيد على ثلاثة آلاف إنسان منذ بداية العام. نعلم أنه مقابل الذين غرقوا، هناك أضعافهم وصلوا بسلام بعد رحلة طويلة كان الموت خلالها يتراقص أمام أعينهم، لكن النتيجة أننا أمام رحلة موت على أمل الحياة، وهي حياة لا تبدأ مباشرة بعد الوصول إلى الشاطئ الآخر، إذ سيمر أكثرهم بفصول من المعاناة الأخرى، هم وعائلاتهم، حتى يستقروا ويتأقلموا مع الوضع الجديد، فيما يمكثون في أوضاع بائسة لزمن طويل.. ولا تسأل عن حرمانهم من أهلهم وجيرانهم الذين تركوهم خلفهم، وبيوتهم التي هجروها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: من المسؤول عن معاناة هؤلاء، ولماذا يجمع بعضهم شقاء العمر، وربما يستدين لكي يركب رحلة لا يدري هل تنتهي بحياة أخرى أم بموت؟ المؤكد أن المسؤول الأكبر هنا، هو الغرب نفسه، فهو الذي مارس نهباً منظماً طوال قرون لثروات العالم الثالث. وما أكثر هذا الرفاه الذي يعيشه، سوى نتاج ثروات الفقراء، ولم يتوقف عند ذلك، بل قام بدعم أسوأ أنواع الطغاة في العالم الثالث، والذين أكملوا مسلسل النهب والفساد، لتزيد معاناة الناس أكثر فأكثر. وحين ضجّ الناس وذهبوا يبحثون عن ملجأ في الدول التي صنعت لنفسها الثراء بدماء أوطانهم، سُدت الأبواب في وجوههم، وقيل لهم إن العولمة تعني الانتقال الحر للبضائع والأموال والخدمات، لكنها لا تعني الانتقال الحر للعمالة، لأن الشق الأول يخدم الدول الغنية، بينما لا ينطبق ذلك على تشريع الانتقال الحر للعمالة. إن جزءاً لا يتجزأ من المأساة الجديدة، بخاصة في ما يتعلق بالمهاجرين العرب، من سوريين وفلسطينيين، وربما غيرهم بعد حين، هو ما سمي الربيع العربي والثورات المبرمجة لتفتيت العرب وتقسيم دولهم، ثم إلقاؤها في بحر الأطماع الأجنبية، وبخاصة الصهيونية. لقد ألصقت بالعربي في بداية المخطط تهمة الإرهاب، وكان العربي موضع شك وعرضة للتحقيق في مطارات أوروبا وأميركا. الآن، أصبح مثالاً للمتشرد المتشبث بالحياة، ولو على قارب موت!