الفكر السياسي العربي المعاصر مطالب بالإجابة عن الأسئلة المركزية المتعلقة بالحاكمية والديمقراطية والدولة والدين والعلمانية المفاهيمية، وسنقف تباعاً على كل سؤال من هذه الأسئلة المركزية لنعاين واقع الحال في المجتمعات العربية، ونبدأ بسؤال الحاكمية لنرصد أولاً المستوى المقرون بالحاكميات السلطانية التاريخية، وهذا المستوى يتأسى بالحاكميات التاريخية الموروثة، ويتجلى بتنوعه النسبي في كثير من البلدان العربية، ويخضع، بهذا القدر أو ذاك، لهذا التنوع المؤثر في تلك المرجعيات، وسنجد على سبيل المثال لا الحصر أن بعض النماذج تمثل الحالة الأكثر حرصاً على المرجعية التراثية. لكن هذه الحالة تتحول بعسر شديد، خاصة إذا عرفنا أن مقدمات هذا الجدل التحولي العسير يمتد لعقود خلت، وأنه يتمايز في تأرجحه بين النمط السابق المألوف، ودعوات الإصلاح البنيوي المؤسسي. غير أن تلك الدعوات تصطدم بالتعليم الديني الطهراني الذي تحول عند البعض إلى عائق كبير أمام التحديث بمعناه الجذري الواسع. بالمقابل سنرى تلك الانزياحات المرنة الواضحة في نماذج أخرى وصلت إلى منطقتي الفعل الهيكلي الإصلاحي العصري من خلال تعميم اللامركزية الإدارية والمالية والثقافية في عموم الأقاليم، إضافة إلى النمط الدستوري المنفتح على بدايات فصل إجرائي بين الحاكمية التاريخية والإدارة المؤسسية العصرية النابعة من القوانين المنظمة لمؤسسات الدولة المختلفة. وعلى خط متصل سنلاحظ أن دولة الإمارات العربية المتحدة تفردت في المنظومتين الكبيرتين لعرب الملكيات والجمهوريات، بكونها الدولة الاتحادية الوحيدة في العالم العربي، وبهذا المعنى نجحت الإمارات في توسيع ملعب النماء الاقتصادي الأفقي منذ عقود من زهو ذلك النماء، كما قدمت مثالاً فريداً في تمتين اللحمة الوطنية المؤسسة على قاعدة التنوع الحميد المقرون بالصيغة الاتحادية، وبهذا المعنى مهدت تجربة الإمارات لدرب الوعي الاجتماعي الجديد المترافق مع الوجود الاجتماعي المادي الذي جعل من الطبقة الوسطى الكبيرة رافعة للتوازن والنمو والتعايش. السر الأكبر في التجربة الإماراتية ليس نابعاً من اقتصاد الريع النفطي كما يتوهم الكثير، بل من الكيمياء السحرية للدولة الاتحادية القادرة على تعظيم الأفضليات الأفقية في الإدارة والتسيير والتنمية، وبما يجعل الذمة المالية والإدارية سمة أفقية يتشارك فيها ويتحمل مسؤوليتها كل المنخرطين في تلك المشاركة الواسعة.. وتثبت هذه التجربة أن المقدمة الحاسمة للإصلاحات السياسية تأتي من الإصلاح المالي والإداري، وحلحلة الاشتباكات غير الحميدة بين المراكز (المقدسة) والأقاليم المهمشة. اخترت هذه النماذج فقط للإشارة، وبالطبع كان يمكن للحديث أن يتسع بسعة بلدان العرب المؤسسة على الحاكميات التاريخية، وتكمن الخلاصة الاستنتاجية لهذه الحالة في أن بلدان العرب النابعة من تضاريس التراث التاريخي تتنوع في قابلياتها وأنماط تعاملها مع التحديات، ومميزاتها النسبية في التعاطي مع ملعب المباراة الحرة للاقتصاد والتجارة والثقافة والتنمية والاستثمار.