محمد أبو عرب شكلت الجامعات العربية خلال مدة الستينات والسبعينات من القرن الماضي منصة للنهوض بالفعل الثقافي الإبداعي بكل تجلياته، وظهر هذا بصورة واضحة من خلال الأسماء الأكاديمية التي كانت تقود الحراك الثقافي، ويشكل حضورها علامة واضحة، وعلى رأسها المفكر إدوارد سعيد الذي أعلنت عنه جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة، وكذلك الدكتور صلاح فضل الذي ظهر في أوائل السبعينات في جامعة القاهرة، وناصر الدين الأسد الذي خرج من رحم الجامعة الأردنية. أسماء كثيرة قادت الفعل الثقافي وكانت ذات مرجعيات أكاديمية خالصة، فظلت الجامعة مرجعاً أصيلاً لطرح التجارب الإبداعية وتقديم الأسماء النقدية والأدبية من خلال حضورها كمركز ثقافي له ثقله في الحراك الثقافي لأي بلد، وهذا ما يؤكده الكثير من سير المبدعين العرب حيث كانت الجامعة أولى المنصات التي قدمت نتاجهم للقراء والمتابعين. اليوم يمكن القول إن الدور الذي لعبته الجامعة خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي تراجع بشكل واضح فصارت الجامعة تنحصر في تقديم المادة التعليمية الجامدة والغائبة عن متغيرات الحالة الإبداعية والثقافية المتجددة للحد الذي بات مصطلح عمل أكاديمي يعد انتقاصاً من النتاج المعرفي والإبداعي لأي كاتب، حتى إن بعض الكتاب ينفون عن أنفسهم عملهم في التعليم الجامعي لما صار شائعاً عنها من عملية كلاسيكية تعيد إنتاج نفسها. إلى جانب ذلك تشكلت منصات جديدة لطرح الفعل الثقافي، جاءت بها الثورات التكنولوجية، فلم تعد قاعات الجامعة منصة تعلن عن الشعراء، والكتّاب والمفكرين، بل صار الفضاء الإلكتروني والإعلام الحديث المرئي منه والمسموع هو المنصة الأكثر فاعلية وسرعة في هذا الزمن الراكض. كل تلك المتغيرات جعلت المؤسسات الأكاديمية منفصلة عن حالة الحراك الثقافي، ولم يعد ما يدور في فلكها سوى جهد متواضع للحصول على الشهادة الأكاديمية، فتبدت العديد من الإشكاليات في المشهد الثقافي العربي، كان من أبرزها تشكل تيارين من المثقفين كل منهما له ملاحظاته على الآخر، وهم الأكاديميون، والمبدعون الذين يرسمون هوية الثقافة العربية بجهودهم الفردية والأهلية. الأهم من ذلك هو أن المنتج النقدي والفكري والعلمي الذي تطرحه المؤسسات الأكاديمية، غاب تماماً عن الحركة الثقافية ولم يعد مركز اهتمام النقاد والقراء والباحثين، فلم تعد للرسائل الجامعية التي تفرضها درجات الماجستير والدكتوراه أي قيمة خارج قاعات المناقشات الأكاديمية، ولم يعد ينظر إليها إلا بوصفها عملاً مرحلياً لتحصيل الشهادة والدرجة العلمية. الإشكالية في ذلك لا تتمثل في الهوة التي تتسع يوماً تلو آخر بين ما يحدث داخل أسوار الجامعة وبين ما يجري خارجها، إنما تتبدى بشكل عميق وتحتاج إلى إعادة بحث، عند النظر إلى كم الرسائل والبحوث الأكاديمية التي تتراكم بمجلدات قاتمة في أراشيف الجامعات، ولا تجد من يخرجها إلى النور. آلاف الرسائل والبحوث في مختلف الفروع الأدبية والنقدية والفكرية تطبع فصلياً وتلفظها الجامعات إلى العتمة، وكأنها تطلق عليها حكماً مسبقاً يجعلها عديمة الفائدة، لا تقدم ولا تؤخر في الفعل المعرفي العربي، على الرغم من أن الجزء اليسير من تلك الرسائل التي التفت أصحابها لأهميتها ونشروها، شكل إضافة ملموسة في حقول معرفية عديدة، وأحدث أثراً بالغاً في مجمل الفعل الثقافي العربي. لا تبدو هذه الإشكالية في سياقها إلا بالنظر إلى العملية التعليمية العربية بكل ما تشتمل عليه من جامعات وكليات ومعاهد وكوادر تعليمية وأكاديمية، حيث تحول الفعل المعرفي فيها إلى عملية تجارية صارت فيه الجامعة مشروعاً يتماثل في جدواه مع أي مؤسسة استيراد وتصدير أو مصنع أو غيره من أشكال المشاريع الربحية. لذلك ليس على المشهد المعرفي العربي بأكمله سوى الانتظار لمزيد من التراجع إنْ تواصل الحال كما هو عليه، فالجامعات ستظل مركز الفعل المعرفي والنهضوي، وستظل المنصة الرصينة التي يمكن الوثوق بنتاجها وتأصيل مرجعياتها. Abu.arab89@yahoo.com