×
محافظة المنطقة الشرقية

#أرامكو توضّح تفاصيل الحريق في برج #الخبر السكني

صورة الخبر

«المقالة من القديم المتجدد للروائي جمال الغيطاني، نشرتها «الراي» في يوليو عام 2011، مع دعواتنا المتواصلة أن يعود إلينا سالما من مرضه»... وأليكم نص المقالة: عرفت العطور العمانية... منذ حوالي خمسة عشر عاما، عندما أهداني صديقي الحميم المثقف العماني أحمد الفلاحي، الذي وهب عمره لجمع الكتب وقراءة الكثير منها وكتابة أقل القليل، رغم غزارة علمه وعمق ثقافته، فإنه أوتي تواضعا جما، ولي حديث آخر عن شخصه وصفاته. إلا أن ما يعنيني من أمره هنا، أنه فتح لي باب التعرف على عطور عمان، عندما أهداني في تلك السنوات النائية قارورة صغيرة جدا تحتوي على عطر بالغ التركيز اسمه «الماس». ما إن تنسمت رائحته حتى تعلقت به وصرت أتعامل معه كأني حصلت على حجر الفلاسفة أو الدر الثمين الذي أخشى فقده إذا نفد. صلتي بالعطور جزء من شخصيتي، وتكويني، وعنصر فاعل في ذاكرتي، إذ إنني أتذكر الأماكن واللحظات والأشخاص بما ينبعث منهم من شذا وروائح. وبالتأكيد فإنني أدين إلى القاهرة القديمة بتربية حاسة شمي تلك. فالروائح المنبعثة منها محددة، واضحة، قوية، يمكن أن تعد علامات على فترات أو أمكان. ما من مسجد قديم إلا وتنعكس من داخله روائح البخور والشموع المعطرة، والمسك والعنبر. وما زال السقاؤون في مسجد مولانا وسيدنا الحسين يمرون على المصلين يحملون قِرب الماء القديمة المصنوعة من الجلد العتيق، يمدون الطاسات المسطحة، في الماضي كانت مصنوعة من النحاس، والآن من الألمونيوم، أجمل ما في هذا الماء، رائحة الورد، فنطقه باللهجة القاهرية «الماورد» أي «ماء الورد» أو «ماء الزهر». نقطة واحدة منه تكسب الماء أبعادا شتى، وتبعث على راحة لا يمكن تحديد معالمها، أو أبعادها، يتفرع من شارع المعز لدين الله، الشارع الرئيس في القاهرة القديمة، شارع الحمزاوي. ويكاد يكون متخصصا في العطور والشموع، أتردد عليه منذ طفولتي المبكرة، عم محمد النوبي، وهو أمهر من عرفتهم في تحضير العطور وفك أسرارها، أتزود منه بما أفضله ويختصني بتركيبات فريدة تحير أصدقائي من الأجانب، وأصفها مازحا بالغيطاني «بارفيوم». ترتبط العطور بالمساجد، والكنائس، ودور العبادة كافة، وإلى بلاد بونت رحلت القوافل البحرية المصرية القديمة بحثا عن اللبان الذي كان يستخدم في الشعائر الدينية بالمعابد. وقد أخبرني صديق عزيز متخصص في الآثار المصرية القديمة، أن ثمة شواهد عديدة تدل على أن بلاد بونت ـ المختلف في موقعها حتى الآن ـ هي إقليم ظفار في سلطنة عمان حاليا. لقد دونت الملكة حتشبسوت أخبار بعثتها على جدران معبد الدير البحري الذي وصل إلينا في حالة سليمة، جيدة، ورسمت على تلك الجدران أخبارها، وتوجد لوحة بها شجرة لبان كما تنمو في أرضها الأصيلة. وهذه الشجرة من نفس النوع الذي ينبت في إقليم ظفار حتى الآن. زرت عمان مرتين، وفي كلتيهما رأيت هذه المساحات الشاسعة من الورود التي تنمو في الريف والجبل الأخضر، ومن هذه الزهور، خاصة الورد، نستقطر العطور العمانية الشهيرة، والتي ترجع إلى أزمنة بعيدة جدا، وأنواعها متعددة وغزيرة أحار أمامها فلابد من دليل. لذلك أكتفي بالتعامل مع الذي أعرفه جيدا «الورد، العود، العنبر» وفي سوق مطرح بمدينة مسقط متاجر عطور جميلة تبدو مليئة بالأسرار، فكل قارورة تحوي سرا، وتنبئ بسر، فإلى من ستمضي، ومن سيتنسم عبقها؟ في عمان تتركز أسرار وصناعة العطور الشرقية وليس العربية فقط، ربما يرجع هذا إلى موقع البلد، فهي على صلة وثيقة بالهند وآسيا، حيث العطور شديدة الخصوصية ذات القداسة، وأفريقيا على الشاطئ الآخر. وكان لسلطنة عمان جزيرة زنجبار، كانت سلطنة عمان منطلقا وهدفا، فهي منطلق لأنها تطل على المحيط الهندي وبحر العرب، ومن موانئها أبحرت الأساطيل، وهي هدف لأنها مدخل إلى شبه جزيرة العرب، ومكان كهذا تتفاعل فيه الثقافات والأجناس والموجودات ومنها العطور. الكحل، الحناء، ماء الورد الصافي، العطور بأنواعها، البخور المستخلص من اللبان، والخلطة الذكية التي تتكون من مجموعة المواد المعطرة، وبخور عود الصندل الغالي الثمن. من المواد اللازمة للزينة والضيافة. والتي تهتم بها سائر الأسر العمانية أيا كان مستواها الاجتماعي. لا يخلو منها منزل في ريف أو حضر، الكحل عادة عربية، يحرص عليها القوم، خاصة العرب، وبالأخص النساء، والكحل ليس للزينة فقط، إنما يحمي العين أيضا من الأمراض، ويقي شعر الجفون ويزيده رونقا وجمالا. الحناء تصنع من شجر الحناء المنتشرة في عمان، ويجري تجهيزها بمهارة للزينة لتجميل لون الشعر، والنقش على الأيدي. أما ماء الورد فيجري تقطيره في عمان من الأزمنة القديمة، وينبت الورد بكثافة في الجبل الأخضر، وعندما زرته عام اثنين وتسعين في القرن الماضي بصحبة أحمد الفلاحي وصديقي الشاعر سيف الرحبي رأيت أوراق الورد المتساقطة تغطي مساحات واسعة من الأرض، وسكان المنطقة متخصصون في تقطير ماء الورد، يستخدم من خلال مرشات فضية لتعطير الأيدي، أو لإضفاء مذاق جميل على الحلوى، وتركيزه لاستخدامه كعطر جميل. وإلى جانب العطر المستخدم من الورد، تستخلص عطور أخرى من العود والصندل والعنبر والياسمين واللبان، ولا يخلو بيت عماني منها، تتعطر به النساء، والرجال، ومفارش البيوت، أشهر عطر للرجال هو دهن العود، ومنه أنواع، بعضها غالي الثمن. والغريب أن دهن العود يستخرج من شجرة مريضة، والحديث عن الدهن يطول. ويضعه الرجال على كفي أيديهم، وخلف آذانهم، وعلى كشكوشة الدشداشة العمانية التي يلبسونها لتبقى الرائحة العطرة التي تفوح منها لمدة طويلة قريبا من شم أنوفهم في حالة العمل وأثناء المناسبات العامة التي يشاركون في حضورها. وتنتشر بكثرة إلى جانب ذلك كله أنواع شتى من العطور التي أقف أمامها حائرا كما ذكرت، وكثيرا ما كنت أقول إن العطور العمانية لو أتيح لها قدر من الشهرة سوف تتجاوز العطور الفرنسية الشهيرة التي تلعب الدعاية دورا كبيرا في ترويجها وارتباطها بماركات شهيرة أصبحت مستقرة لكثرة تردد أسمائها عبر أجهزة الإعلام الغربية المؤثرة وأخيرا أتيح لي أن أقف على البداية. منذ فترة تعرفت على عطر عربي عماني جميل وفريد، اسمه «أمواج»، رأيته في السوق الحرة بمطار روما، زجاجة من الكريستال الرائع على هيئة قبة صغيرة تحوي عطر أمواج للنساء، وزجاجة من الكريستال تحوي عطرا للرجال، على هيئة الخنجر العماني الشهير الذي يتمنطق به الرجال ويعتبر جزءا من الزي الرسمي للسلطنة. الحق أنني سررت جدا بهذا العطر العربي الجميل، ورغم ارتفاع سعره آثرت أن أحييه بشراء قارورتين، واحدة لزوجتي والثانية لي، وأستطيع التأكيد أنه من أجمل العطور التي تعاملت معها. وفرحي به أنه بداية تسويق العطور العمانية العربية عالميا، والأصدقاء العمانيون أناس في منتهى الحكمة والأصالة والمهارة أيضا، كيف لا وهم أهل بحر؟ لم يكتفوا بزهور عمان لإيجاد هذه التمويجة الفريدة التي تسهد في إيجاد عطر (أمواج) لنقرأ المفردات. العطر مستقطر من زهور «الايلنغ»، التي تنبت في جزر القمر، وتم مزجه بعصارة الورد ذي الرائحة النافذة من المغرب، ورؤوس الأعشاب الدافئة لشجر الفص من مدغشقر، وعجينة الياسمين من مصر، إضافة إلى البخور الممزوجة بالأخشاب النفيسة مثل «خشب الصندل وخشب الأرز والفاباك» من باراجواي. هذا عطر كوني بحق، استقطر فيه العمانيون روح الكوكب من شرق وغرب، ولو تم التعريف به كما يجب لأصبحت عمان مصدرا لأجمل عطور عمان، لا أعني «أمواج» فقط، إنما تلك العطور العمانية الصميمة في قواريرها الصغيرة، الضامرة، والتي أقف أمامها حائرا، ثم أتجه إلى ما عرفني عليه صاحبي أحمد الفلاحي، دهن العود الجميل والذي أمس به ما تحت أنفي قبل نومي حتى يضفي على إغفائي صورا جميلة وأصداء رائعة ربما أفتقدها في يقظتي.