×
محافظة المنطقة الشرقية

حوار في الجول – إكرامي: عن وقفة اتخذتها مع نفسي.. وجيل " الكرة الحلوة " وذكاء كوبر

صورة الخبر

الشارقة محمد أبو عرب: مثلما سردت الأيام سيرة حياة عميد الأدب العربي الراحل طه حسين، سردت ذاكرة المثقف العربي منذ قرابة المئة عام، حيث صدرت في العام 1929 وشكلت حالة إبداعية مغايرة تروي قصة طفل كفيف تلمس العالم بروائح الأشياء وأصواتها وكان نهماً للحد الذي التهم فيه الأدب العربي منذ السموأل حتى توفيق الحكيم، والأدب الغربي منذ ثيرفانتس حتى جوزيف كونراد. تربت أجيال كثيرة في الثقافة العربية على مقاطع من تلك السيرة التي كانت غالباً ما تقدم في مناهج اللغة العربية، ويتناوب على قراءتها الأطفال وهم يستمعون لذلك النص الأدبي الذي يروي حكاية شخصية فذة شكلت علامة فارقة في مسيرة الحياة العربية بمجملها خلال القرن العشرين. نصوص الأيام تحكي كيف كان يمضي حسين في السوق ويعرف الباعة والزقاق من رائحة الأماكن وأصوات الأشياء من حوله. تربى على ذاك النص كثيرٌ من أدباء وشعراء وروائي جيل الستينات، والسبعينات، والثمانينات، وظل القارئ العربي يفتح الكتاب الذي غالباً ما كان يطبع بصورة تتصدر غلافه يظهر فيها طه حسين بنظارته السوداء العريضة، وهو يسند رأسه على كفه ساهماً مغرقاً في التفكير، يقلب القارئ الغلاف إلى الحكاية ويظل عنوان السيرة خلفه وهو يمضي في السيرة صفحة صفحة، وكأن العنوان ليس إلا باباً يفضي إلى بيت حسين ولا حاجة حتى لطرقه فهو مشرع على الحكاية ومفتوح على النص. لكن يعرف الكتّاب أن للعنوان حكاية ربما توازي النص المؤلف، وربما تأخذ وقتاً طويلاً يمتد طوال مشوار الكتابة، فالنص كما ظل سائداً في الثقافة الشعبية العربية يقرأ من عنوانه، وما أصعب أن تصبح مئات الصفحات مختزلة في كلمة. إذاً لماذا اختار حسين الأيام؟، وهل أفلح في اختياره؟، وما الدلالات البعيدة العالقة خلف هذا العنوان؟، هل الأيام هنا زمن، أم كناية عن اختزال، أم إشارة إلى قصر، أم إغراق في فهم السيرة، أم نتيجة تأملية لمفهوم الحياة؟ الحكاية مع الأيام تطول، ولا يمكن قراءتها في سياق منفصل عن بنائها اللغوي، والدلالي، والفلسفي، وتاريخها البعيد والقريب، وكل ما تشير إليه، فمثلما أفرد ابن منظور في لسان العرب صفحات طويلة للحديث عن اليوم في العربية، يمكن أن يتحول اليوم إلى مبحث طويل لمجمل العلوم الإنسانية والأدبية. يقول ابن منظور إن الأيام جمع يوم وأصلها أَيْوام ولكن أدغمت، ولم يستعمل منها جمع الكثرة، ويشير إلى أن اليوم معروف في المعنى وهو الزمن ما بين طلوع الشمس وغروبها، وهنا تصبح الأيام في حكاية طه حسين تكرار شروق الشمس وغروبها، وحبساً لسلسلة الأحداث الجارية بين هذه المدة الزمنية القصيرة، فلم يقل أعواماً، أو سنوات، أو دهراً، أو عمراً، أو حيوات، أو أعماراً، وإنما اختار اليوم لتحديد العلاقة بين الزمن الحدث الجاري في السيرة، وهو بذلك يشير إلى رؤيته للحياة، إذ يكاد اليوم يكون الوحدة الزمنية الأصغر للحديث عن الحياة، وكأنه بذلك يقول في مجاز المفردة، إن الحياة قصيرة بما يكفي أن تجمع في أيام قليلة. ربما يكون ذلك في الإطار الظاهر صحيحاً، إلا أن الإغراق في المعنى يكشف المزيد، فكما يكمل ابن منظور: روى مجاهد عن قوله تعالى: (لا يَرْجُونَ أَيّامَ الله) إن الأيام هنا بمعنى: نِعَمَه. وهنا تنكشف دلالة اليوم بوصفه سيرة الزمن الحسن، إذ تحول إلى نعمة، فإن جاز التعبير، فإن المرادف لعنوان الأيام هو النِعم، وهنا لا تصبح حكاية السيرة لدى حسين سرداً فائضاً يهدف إلى توثيق الحياة يوماً تلو الآخر، وإنما تصبح اختزالاً وتكثيفاً للتجربة، يريد منها إفادة القارئ، فلا تقرأ تجربة فقدان بصره بوصفها حالة إنسانية تثير العواطف، وإنما بوصفها ملخص التعامل مع مفهوم العجز وإعادة الرؤية إليه بحيث يخرج الإنسان من شكله التقليدي المكرس ليصبح طاقة عصية على الأداة المادية الظاهرة في الشكل البشري الجسد. مقابل هذا المعنى يكشف اللسان أن العرب كانت تقول: يَوْماهُ: يومُ نَدىً، ويومُ طِعان، ويَوْماه: يوم نُعْمٍ ويومُ بُؤْسٍ، فاليومُ ههنا بمعنى الدَّهْر أَي هو دَهْرَه كذلك، فتتشكل في هذا المعنى دلالة جديدة، إذ يخرج اليوم من المعنى الأول الذي يشير إلى المدة الزمنية القصيرة المحصورة بشروق الشمس وغروبها، ليتحول إلى صيغة كثيفة للدهر، والدهر هو الزمن بمفهومه الواسع والفائض عن الإدراك والممتد بآلاف وملايين السنين إلى ما لا نهاية. إن كان حسين استند إلى هذا المعنى فالأيام تصبح بمعنى الدهور والأزمان، فتصبح الحكايات التي اختارها هي اختيارات ذكية تمضي في تماس مع الشعور الإنساني بحيث تصبح حالتها قابلة للفهم لدى أي إنسان، أي تشبه في بنائها الإنساني فكرة الحب، والخوف، والمرض، وغيرها، وهذا ينكشف في سرد السيرة، إذ يستند حسين الى رسم المشاعر وتجسيدها في الحدث، فلا تصبح سيرته مقبولة في عصره وإنما متجاوزة كل العصور والأزمان. ليس ذلك وحسب، فالعرب كانت تريد باليوم الزمن المحدد، فكانوا يقولون: لك أَيّامُ الهَرْج أَي وقتُه، ولا يختص بالنهارِ دون الليل، فإن كان ذلك ما ذهب إليه حسين فإن العنوان اُختزل وحذفت منه مفردة تركها حسين للقارئ نفسه، فربما أراد أن يقول:أيام التعب، أو أيام المعرفة، أو أيام الفرح، أو غيرها، وهذا ما يمكن كشفه لدى قراءه السيرة، فهي قابلة لكل ذلك، تعباً كان أم معرفة، أم فرحاً، وعبر إضافة التعريف للأيام.