لم أقرأ التصريح الذي نسبه خطيب جامع الصادق بقرية الدراز الشيخ محمد صنقور في خطبته الثانية ليوم الجمعة الماضي إلى إحدى الوزارات، ولم يسمها، والظن أنه عنى بذلك إما وزارة العدل أو وزارة الداخلية. ولم أعرف تحديدا المسؤول المصدر، ولم يذكر الخطيب اسمه أيضا، الذي صرح بأنه قد يتم إعداد خطب نموذجية وتوزيعها على خطباء يوم الجمعة، وأنهم، أي المسؤولين بالوزارات بعد المتابعة لكل ما يتم القاؤه من خطب في المساجد سوف يتابعون ويساءلون. ولكن ما نسبه شيخنا إلى الجهة التي لم يذكرها بالاسم، في تصوري لا يحتمل أن يؤخذ على هذا المحمل من الحدة في الطرح؛ لأسباب ثلاثة أولها ضبابية هوية سندات موقف الخطيب؛ لأن في ذلك موجها قرائيا قد يسعفنا في ضبط آفاق دلالات الخطاب وقد يقودنا ببساطة إلى التشكيك في مصداقية الخطاب المنقول؛ إذ قد يكون نسج وهم لا وجود له إلا في ذهن الناقل أو المعلق -وإني لأنزه الشيخ أن يكون من الواهمين لعلمي بما تقتضيه وقفة المنبر من صدق ونزاهة-، وثانيها أن فهمي لكلمة نموذجية يرتبط بتصور تعليمي يُنمذج الممارسات لمحاكاتها وليس لاجترارها ونسخها ونقلها كما هي فالنموذج مثال يستوفي معايير ما يُنتج ويُعرض ليُقتدى به، وثالثها أن جوهر الفكرة في مقاصدها نبيل بل مطلوب، وهو ما بنى عليه الشيخ الخطيب الفرضية الأولى التي هيمنت على خطبته كما وكيفا. المهم أن مقصد النمذجة مرتبط بتصور علاجي لآفة نخرت المنابر الدينية، فدعنا على الأقل نقارب ونجرب لعل في ذلك خيرا! مؤدى فرضية شيخنا الأولى، وله حول القرار المزعوم فرضيتان، أن القرار موجه لمعالجة الخطاب الطائفي والخطاب التكفيري والخطاب الإقصائي، وهي لو يتمعن القارئ فرضية لا يختلف في وجاهتها عاقلان لولا أن صاحبها قد عمد إلى أن يرمي بكل مساوئ هذا الخطاب على خطباء مكون اجتماعي واحد، وكأن صفة الطائفية والاقصاء والتكفير لصيقة بخطاب ذاك المكون دون غيره. أما الفرضية الثانية فيستلها من طبيعة الخطاب الذي يلقيه من منبر مسجد الصادق بالدراز، وهو خطاب يصفه بـالمتصدى للنقد والتصحيح والمطالبة بتحسين الحكومة لأدائها. هكذا! غريب أمر ما توصلت إليه يا شيخ من نتيجة! أبعد ما يقارب من خمس سنوات عجاف من خطب التحريض والكراهية والتأليب على النظام السياسي للمملكة التي انطلقت من على هذا المنبر، وكل تلك النداءات إلى السحق والسحل ممن تبوأ المنبر نفسه قبلك، تتحول تلك الخطب الصريحة دلالة إلى خطب نقد وتصحيح وتحسين؟! في ظني أن ما ذكره الشيخ محمد صنقور في خطبته الثانية، التي يقتفي فيها أثر سلفه الشيخ عيسى قاسم، ليس فيه ما يؤثر في حرية الرأي، ولم يكن يستدعي أن يجعله موضوعا لخطبة جمعة بقدر ما هو داخل في باب الضرورة الوطنية التي على الجهات الحكومية المختلفة أن تعمل عليها، ومن خلالها يتم ترشيد الخطب للتغلب على هذا الانفلات في الكلام من على منبر رسول الله. لا يجوز أن يتم التلاعب بإيمان الناس، وحرفهم عن ممارسة طقوسهم الدينية بإثارة ما يمتلئ به قلب الخطيب وفكره من أمور الدنيا والسياسة، خصوصا وأن غالبية الخطباء من أصحاب الإيديولوجيات وينتمون إلى جمعيات وجماعات مذهبية عقائدية. ولعل ما ذكره وزير الداخلية الشيخ راشد بن عبدالله من تصورات أفصح عنها في كلمته لمعالجة الخطاب الديني، عند لقائه بنخبة من أبناء الوطن، يلخص الخيارات الأمثل للحد من انفلات الخطابات الدينية. وأتمنى شخصيا أن تضمن حزمة التشريعات المزمع إصدارها قريبا لمكافحة الكراهية والتمييز ما أورده الشيخ صنقور في خطبته ونسبه إلى مسؤول، لتجاوز الخراب الاجتماعي الذي سببه هذا الخطاب ومازال. ثم من قال ان لا شأن للخطاب الديني بالنقد والتصحيح والمطالبة؟ لا أحد أنكر ذلك ولا أحد يستطيع فصل الشأن العام عن خطب الجمعة ودروس الوعاظ لأننا نعلم جميعا أن الدين المعاملة وأن هذا المبدأ يجعل التوجيه الديني مطلوبا لتوجيه السلوك وتعهد ما زرعه الأجداد من حميد القيم، وعلى هذا النحو كانت منابر الله في مساجد البحرين قبل أن تحل بنا لعنة الدوار ولوثة الشتاء العربي وقد كان الخطباء قبل الدوار ينتقدون ويوجهون إلى الممارسات الصح ويطالبون من دون أن يسيئوا ويحرضوا الشباب والمراهقين على تجاوز القوانين المرعية. وهنا بودي أن نسأل الشيخ محمد صنقور هل دعوة سلفك المشهورة اسحقوهم تدخل في باب النقد والتصحيح والمطالبة؟ وهذا مثال سؤال لأسئلة كثيرة لا يسع المجال لطرحها في هذه المساحة ولكن أحيل الشيخ صنقور إلى أرشيف موقع جمعية الوفاق ليتأكد من صدق ما أقول. تراكمات الشحن المذهبي الطائفي من فوق المنبر الديني بلغت مداها حتى تفجرت أحداثا مؤسفة كان من نتيجتها هذا الشرخ الاجتماعي الغائر في وجدان الشعب، ولهذا ينبغي على الدولة، من دون المساس بحرية التعبير، أن تتصدى لما يقلق استقرار الوطن ويهدد أمن المواطن والمقيم. وقد أكد وزير الداخلية أهمية المحافظة على المنبر الديني من خلال إبعاده عن الخطاب السياسي التحريضي ونبه إلى ضرورة الالتزام بتأهيل الخطباء ومزاولة عملهم وفق الشروط التي يتم تحديدها للقيام بهذه المسؤولية الهامة. ولأن لأحداث الدوار نتائجها المنعكسة على المزاج العام للخطباء؛ إذ صيرته رائقا، منفلتا من عقال العقل والدين، متعاليا على الضوابط القانونية ونواميس العيش معا، فإن الحديث عن ترشيد خطب المنبر الديني لن يلقى قبولا من هذه الفئة، بل ستشتد مقاومة من اعتاد التحريض وألف الطرب لشحنه العوام هذا التوجه العام إلى جر الخطاب الديني إلى الاعتدال والوسطية والمدنية، وستنبري الجمعيات المذهبية واليسارية المتحالفة معها ودكاكين حقوق الإنسان الفاقدة للحس الوطني ومسؤولية الضمير رافعة عقيرتها بالبكاء على قمع حرية التعبير. كل عاقل يعلم ولا شك أن في انصياع الخطاب الديني لضوابط مدنية الدولة هو الحل الأنجع لتجاوز المرحلة الحرجة التي أوقعتنا فيها محنة الدوار، وما عمل عليه خطاب التحريض والشحن، وللخطاب الديني فيه مساهمة كبيرة، من فتن دقت أسافين الفرقة بين مكونات المجتمع البحريني وكادت تنسف إرثا ثقافيا واجتماعيا وإثنيا جميلا جعل البحرين أيقونة فن العيش معا. إن الحاجة ماسة لتشريعات تجعل الخطاب مهذبا يحترم عقل المسلم، ويسهم في الاستقرار. لقد حان الوقت لنقول للخطباء المؤزمين كفى تحريضا.