عاد الهدوء الى ساحة رياض الصلح، في قلب بيروت. انسحب منظمو اعتصام «طلعت ريحتكم» بعدما استطاع بعضهم إلباس الاحتجاج على تردي الخدمات طابعاً مذهبياً. تحولت الانتفاضة السلمية الى شغب أفسَدَ حلم اللبنانيين بهواء نقي. لكن المثير أن حملة «طلعت ريحتكم» لم تحظَ بتفاعل كافٍ، على رغم أن رائحة النفايات زكمت أنوف سكان منطقة الشرق الأوسط. لذلك طرح بعض اللبنانيين سؤالاً منطقياً: لماذا لم يتحرك اللبنانيون لإزالة النفايات؟ لماذا جلسوا في بيوتهم وكأن الأمر لا يعنيهم؟ سؤال مشروع، والإجابة عنه واضحة جداً. معظم المواطنين اللبنانيين لا يريد أن يلعب دور فاطمة في فيلم «ليلة القبض على فاطمة» التي كانت تقوم بأعمال بطولية مع الفدائيين المصريين ضد الاحتلال وتنسبها الى أخيها جلال لتدعم صورته وموقفه، ونجحت في صنع موقعه ووصوله الى السلطة، لكنها اكتشفت في النهاية أنه يعمل مع الاحتلال الإنكليزي، وهو تآمر عليها وأدخلها السجن لكي لا تحقق حلمها بالزواج من حبيبها. هذا هو لسان حال المواطن اللبناني الذي لم يتفاعل مع حملة «طلعت ريحتكم» الى حد واسع، لإدراكه أن النزول الى الشارع يدعم زعامات طائفية ومذهبية، ويكرس النظام الطائفي الذي تحوّل مع الوقت شبكة مصالح فاسدة يستثمرها زعماء الطوائف والمذاهب. ولهذا السبب نجح هذا النظام في رد شعار «طلعت ريحتك» على مطلقيه، بعدما اخترق صفوف الحملة، ونقلها من مطالب سلمية لتحسين الخدمات الى تظاهرة شغب تريد تعكير الأمن وإسقاط الدولة. المفارقة أن خيبة مطالبة المواطن اللبناني بتحسين الخدمات ولجم الفساد، سيحصدها المواطن العراقي، في نهاية الاحتجاجات التي يشهدها العراق. الأنظمة السياسية القائمة على أساس المحاصصة الطائفية محصّنة ضد الاحتجاجات الوطنية، وهي تلقت تطعيماً أضعف احتمال إصابتها بهذا الخطر، لأنها وبحكم تكوينها طوّرت مناعتها ضد هذا النوع من الرفض من خلال ممارسته لسنوات، فأصبح المواطن يؤمن بأن التجاوب مع الاحتجاجات هو مشاركة في تصعيد الحشد الطائفي. ليس صحيحاً أن المواطنين اللبنانيين يفتقرون الى رؤية لمشروع سياسي وطني، وأنهم من أجل ذلك لا يتفاعلون مع الحراك المدني لتغيير أوضاعهم وتفاصيل حياتهم اليومية التي استشرى فيها فساد وصل الى مكبّ النفايات. لكن الحقيقة في لبنان، والعراق أيضاً، أن النظام الطائفي احتكر الفساد والاحتجاج في آن. من يحتجّ فهو يدعم الوضع السائد، ويطالب بزيادة حصة طائفته ودعم نفوذها. خُطِفت أحلام الناس ومؤسسات الدولة لمصلحة الطائفة، وصار الاحتجاج في نظر اللبناني العادي، إحدى وسائل الاصطفاف الطائفي، فأعرض عنه. لبنان مصاب بسرطان الطائفية، وهذا المرض إما أن يدمّر حياة الناس ويجعلهم يعيشون بين أكوام «الزبالة»، وإما أن يقتلهم بحروب أهلية.