تغرينا بعض الروايات بزيارة المدن التي جال كتابها وشخوصهم فيها، لكننا وبعد أن نسافر اليها، نتمنى لو أبقينا رؤيتها أمنية، فالمدن التي نقرأ عنها ونزورها بمخيلتنا، ونحلم بتفاصيلها، أجمل من الأخرى التي نراها أمامنا ونتحسسها بأيدينا، ونفقدها بذلك الكثير من جمالها لأنها تتحول الى صخور وجدران وأشياء، مجرد أشياء لا أكثر. ولطالما تخيل القراء أنفسهم هائمين بأرواحهم في شوارع تختلط روائحها بمشاعرهم، فكانت هي الأجمل والأصدق من التي يسيرون في خضم ضوضائها، وينزعجون من تفاصيل لا تشبه ما اختلقه الأديب، فالمدن المكتوبة ذات كيان وروح وبطلة الروايات والقصائد، ستجبر الكاتب على صياغة حضورها بداية من اسمها وعنوانها وانتهاء بكل ما تحمله في أعماقها من تفاصيل، لكنها ستترك له خيار وصفها، فهو إن أحبها سيصورها الأجمل وإن أبغضها سيهوي بها الى عمق سحيق. ولطالما آمنت بأن المدينة المكتوبة في رواية والأخرى المرسومة في قصيدة ليست مثل أي صورة يلتقطها الناس بعيونهم، لأن المدينة التي تغوي الكاتب وتتمكن من السيطرة على وجدانه، ستمنحه ما خفي على الناس من مكنوناتها وستتيح له الكتابة عما لا يراه الآخرون فيها، حتى لو كانت تحمل الاسم والعنوان نفسه، لكنها ستعلق في روحه حتى تصبح مدينته الخاصة، ينقل لنا أصدق التفاصيل عنها ويبوح بأشدها سرية. وتختلف الكتابة عن المدينة التي يكبر فيها الكاتب عن الأخرى التي يزورها أو يذهب للعمل فيها، فالأولى التي يعانق شوارعها بذكرياته، يمتلكها وهي تخصه وحده، ولا يراها بقدر ما يشعر بها وتعيش فيه كما يعيش فيها ويحكي عنها كمن يحكي عن نفسه، بينما المدينة التي يلتقيها ويتعرف إليها لغرض أو هدف معين فهي التي سيحكي عنها كما يحكي غيره لأنها المدينة التي يزورها الكل ولكن لا يملكها أحد. وكم من كاتب جال بقلمه بين شوارع المدن، وسار بعيونه وفكره فيها قبل أن يمشي عليها بقدميه، وتاه في أزقتها وحواريها مستلهماً منها الأفكار والقصص، فتغرينا رواياته بزيارة تلك المدن، نبحث فيها عما رآه وأمتعنا، ولكنها تصدمنا بحقيقتها وتذهلنا بجدرانها العارية من الأحاسيس وشوارعها المجردة من كل المشاعر، ومبانيها التي لا تدور فيها الحكايات وبيوتها التي لا تردد الرياح أصداء أرواح اعتقدنا أنها تسكنها، فمتعة زيارة مدينة لا تعادل متعة كتابتها أو قراءتها في رواية. إن الروائيين أقدر على اختلاق أجمل المدن ورسمها بعناية أكثر من العيون التي تصورها كما هي وعدسات آلات التصوير التي ستحفظ تفاصيل ملامحها، لكنها ستعجز عن الاحتفاظ بأصداء من عاشوا فيها أو حكايات الذين مروا بها ذات يوم. باسمة يونس basema.younes@gmail.com