.. من الحكمة والرشد أن تجعل القيام بالأعمال الصحيحة سهلاً، وأن تجعل القيام بالأعمال الخاطئة صعباً. - الدرس الأول. هذا إدراكٌ تنبّه له عقلي من حضوري دعوة رجال حي النظيم في الرياض، في استهلال مشاريع مجلس الحي التطوعي للسنة الجديدة، وشرفوني وأسعدوني بأن أكون راعي الافتتاح. وهنا تعلمت الدرس الثاني: ليس عليك أن تكون وجيهاً أو مسؤولاً كبيراً كي يقدّرك الناسُ، فقط قدِّرهم أنت، وانظر ماذا سيفعلون لك. حي النظيم، حي كبير، ويطوق شرق الرياض العاصمة، ومليء بأخيار الناس - واستدللتُ هذا بثلاث زيارات للحي، الأولى لما كانت السيول تغمر الحي وكان تضرره كبيراً، وصاحبت - فقط - حينها أبناء وبنات الرياض وهم يساعدون بهمة ونظام وتواؤم مع الجهات الرسمية في الإنقاذ، وأحد أبطالنا من الشباب غطس رغم كل التحذيرات لينقذ رضيعة كانت أمها تصرخ وتستغيث هستيرياً، فلم يتمالك الشاب نفسه وغطس، وأيادي الجميع على قلوبهم. ظهر من تحت الماء والرضيعة بين يديه.. حيّةً ترزق. وكان لقائي بأهل النظيم العاديين، ورأيت فيهم النخوة والشهامة، والتواصل في تقديم الشكر لمن جاء ليغيث حيّهم تطوعاً.. وتكونت صداقات لا أنساها، منها أن شاباً افتتح مشروعاً وخسر وكان ظاهراً وقتها في العمل الإغاثي في النظيم، ونادى صديقٌ له من الحي معارفَهُ لمساعدة صديقهم وقدموا له مبلغ 100 ألف ريال لينهض من جديد، بل إن مهندس ديكور، وكهربائيا من الحي قدّما له خدمات مجانية في إعادة تأهيل المحل، كان هذا سرا، أحب الآن أن أذيعه، مع كل اعتذاري لمن طالبوني بعدم الإفصاح وقتها. وكان هذا درسي الثالث من حي النظيم: نطلب من العلي القدير أن يحمينا من الكوارث، ولكن مع الكوارث يظهر جمال محبة إنسانية. زيارتي الثانية لحي النظيم باستدعاء من مجموعة شباب مفكرين ومتسائلين، فذهبت إليهم، ثم فوجئنا بالجار، ومن غير علمهم، يرسل لنا بمأدبة دسمة للغداء.. ولما هاتفه أحد الحاضرين، كان هاتفه مقفولاً. وكان هذا درسي الرابع: إن ما نعتقده بأن الشهامة والكرم قد غابا ليس صحيحاً، يبقى الخيّرون بتعاقب الأزمان ضد ما خُيِّل لنا أن الحياة العصرية بإيقاعها السريع غمرتهم. زيارتي الأهم للحي الثالثة، لما دعاني الأستاذ عبيد العنزي رئيس مجلس إدارة مجلس حي النظيم التطوعي لافتتاح خطط مشاريعهم للسنة القادمة، وكان السيد العنزي بمظهره القشيب- والحقيقة هذا ما لفتني: أنثروبولوجياً، وأود بحثاً في المسألة، كل أهل الحي يظهرون بقيافة بالغة الأناقة، كما كان السيد العنزي بإهابه الجميل شديد التواضع حييًّا وهو يدعوني ويترجاني بالقبول، وهنا تدخل صديقنا عضو الشورى الدكتور نواف الفغم، وكان هذا بمنتدانا أمطار، يلحّ علي بالقبول.. لم يعلما أن سكوتي ليس تردداً، بل كان إعصاراً من الدهشة يثور داخلي بسؤال كبير: هل أنا أستحق ذلك؟ وكان درسي الخامس: لا تحكم على نفسك، فغالبا ما يكون خاطئاً، ودعْ الناسَ يحكمون عليك، فدائماً ما يكون صواباً. وصلت يوم الحفل قاعة الاحتفال الكبيرة في الحي، وكان الاستقبال مهيباً، فأنا بمظهري القليل الحرص في التأنق ومهما حاولت لا يبدو علي ذلك، لا أناسب مناسبة فخمة على هذا القدر، بخروج رجالات الحي من كبار رجال الأعمال والمفكرين والمخططين والمهندسين والمسؤولين الحكوميين الكبار حتى من خارج الحي، والفلاشات.. وطارت عيناي: كل هذا؟!. لقّبني الأستاذُ عبيد العنزي في خطابه برائد العمل التطوعي في العالم العربي، فتلفّتُّ حولي، وقلت للأستاذ الكبير سهم الدعجاني: أخاف أحداً يحاكمني معتقدا أني ادعيتُ ذلك. ثم بدأ الأستاذُ المربّي الراقي الفكر استراتيجياً زيد الخمشي بشرح وافٍ وموجز عن مشاريعهم التي تهدف إلى إنماء الحي صناعيا وتقنيا ومعرفيا وفكريا وإنسانيا، وكان العرضُ مدهشا بدقته واحترافية تخطيطه، وكل ما أرجوه، القدرة على التطبيق. وقد كان لأهل الحي أن يستمروا في الصياح والاحتجاج ضد إهمال الحي بمرافقه العامة، ولكن جعلوه تحديا للعمل من أجل الحي، وهنا درسي السادس: الصياح والإنكار بالمطالبة يطير مع الهواء، والعمل الحقيقي سيملأ الهواء. في جلسة محاورتي مع الحاضرين الكثيرين في القاعة الكبرى، قلت: شوي شوي علي!، موجات من الذكاء والفصاحة وروعة الخطابة والإلقاء، وكلها تدور حول الانتماء لحيّهم انتماءً راسخاً. وهنا درسي السابع: نتساءل دوماً عن الولاء، عرفت منهم أن الولاءَ للحي سيقود إلى الانتماء للمدينة التي فيها الحي، ثم سيقود إلى الانتماء للوطن الذي فيه المدينة. لذا.. أرجو وأتمنى من الجهات المسؤولة إن لم تضع جهوداً كافية في الحي، أن تقف مع المجلس وتساعده في إنجاز أهدافه.. وسيكون لكم الشكر وحُسن الجزاء. غادرتهم، جزءٌ من قلبي لم يغادر.. بقي معهم.