عندما قال سان جوست، أحد قياديي الثورة الفرنسية وطغاتها لاحقاً، في أواخر القرن الثامن عشر أن «السعادة فكرة تبدو جديدة على أوروبا»، كان يشير تحديداً الى المعرفة كنبع للسعادة، وكان يتحدّث في شكل أكثر تحديداً عن ذلك «المشروع الفكري الخطير» الذي رأى النور في فرنسا، قبل قيام الثورة بعقود عدة، وكان هو - أي المشروع -، في اعتراف الجميع وفي مقدّمهم أصحاب الثورة أنفسهم، أحد العناصر الرئيسية التي مهّدت للثورة. والمشروع المعني هنا هو «الموسوعة» أو «دائرة المعارف» (الأنسكلوبيديا)، التي كان ديني ديدرو أحد كبار فلاسفة التنوير الفرنسيين، محرّكها الأول ومحرّرها الرئيسي. ومن الواضح بالنسبة إلينا هنا، أن ما كان يعنيه سان جوست في كلامه بالتمام، هو أن الثورة الفرنسية ما كان لها أن تقوم وتنجح لولا ذلك القسط من المعرفة والوعي الذي واكبها وحرّكها، وكانت «الموسوعة» الى كتابات فولتير وروسو وغيرهما، ذات شأن أساسي في إيجاده. > بعد ذلك بقرن وأكثر، راح كثر يتحدثون عن «موسوعة» ديدرو باعتبارها الأولى من نوعها في تاريخ الفكر البشري، جامعة للمعارف والأفكار في سياق واحد متواصل ومتقاطع، بل حتى متداخل مع بعضه البعض، غير أن هذا - كما نعرف اليوم - لم يكن صحيحاً، إذ ثمة أعمال فكرية عربية وأخرى في لغات شتى، سبقت في طابعها الموسوعي عمل ديدرو. بل نعرف كذلك، أن تلك الموسوعة الفرنسية نفسها لم تكن في حينه عملاً مبتكراً، بل كانت مجرد تطوير وترجمة لموسوعة إنكليزية عُرفت باسم «الأنسكلوبيديا»، أو قاموس الفنون والعلوم، ظهرت في لندن في العام 1728، من تحرير أفرايم تشامبرز. في ذلك الحين، كان لهـــذه الموسوعة الإنكليزية من النجاح والصدى في العالم، ما جعل ناشراً فرنسياً متعـــلماً مبتكراً ومتحرراً في فكره يُدعى السيد لوبـــروتون، يقرر ترجمة ما في تلك الموسوعة المـكتوبة بلغة شكسبير الى لغة موليير، فأسند المهمة الـــى مواطنه الكاتب والمفكر ديني ديدرو، الذي سرعان ما جمع من حـوله عـــدداً من الباحثين والمفكّرين للعمل على ذلك المشروع. ولكن ذلك المشروع الذي كان يقتصر طموحه في البداية على نقل النصوص من لغة الى أخــرى، سرعان ما وجد نفسه يتحوّل من مجرد ترجمة فرنسية لعمل إنكليزي، الى عمل قائم في ذاته. وهكذا، وُلدت «موسوعة» جديدة من رحم الأصل الإنكليزي، وسرعان ما ذاعت شهرة المحاكاة الفرنسية، واتخذت هذه طريقهـا لتصبح العمل الرئيسي في هذا الميدان. وذلك بالتحديد لأنها، على أيدي فلاسفة التنوير الفرنسيين، سرعان ما أضحت عملاً معرفياً - نضالياً، إذ جعلت من معظم دراساتها ومقالاتها منبراً لمعركة في سبيل التنوير والعلمانية، ووسيلة للتصدّي للفكر الظلامي الذي كان سائداً في ذلك الحين، يدعمه الإكليروس (واليسوعيون بخاصة)، وتساـــنده باستشراس جهات متّصلة بالسلطة. والحال أن ذلك كلّه، إضافة الى دعم أوساط أخرى في السلطة كانت أكثر تحرراً وتقدماً، للموسوعة، خلق من حول ذلك العمل الثقافي الفكري معركة هائلة ظلّت أصداؤها تتردد طوال عقود، وأدت أحياناً الى مطاردة رجال الموسوعة، وأحياناً كثيرة الى منع صدور أجزائها، وفي أحيان ثالثة الى اجتزاء فقرات عدة من مقالات فيها. ولن يكون من المبالغة القول، اليــوم، أن المعركة التي خيضت من حول «الموسوعة» كانت تمهيداً للمعركة السياسية الضخمة التي جابهت فيها قوى التقدّم والعلمانية والاندفاع الى الأمام، في ذلك الحين، قوى الظلام، وانتهت بانتصار الثورة الفرنسية. > إذاً، انطلق ديدرو ومعه دالامبير، من «موسوعة» تشامبرز الإنكليزية، ليحققا عملاً جديداً، شاركهما فيه رهط من كبار العلماء والمفكرين في ذلك الحين، من أمثال فولتير وروسو ومونتسكيو وهولباخ وكوندورسيه وبوفون. وجاءت النتيجة سفراً جامعاً يقع بالنسبة الى طبعته الأولى، في 17 مجلداً ضخماً صنّفت فيها المعارف المتعلّقة بشتى أنواع العلوم والفنون والآداب مرتبة على حروف الأبجدية، وحمل السفر اسم «قاموس معقلن الفنون والعلوم والمهن»، وضمّ الى تلك الأجزاء الرئيسية، 11 مجلداً آخر احتوت على خرائط ورسوم ولوحات. والى هذه المجلدات، أضيفت 5 مجلدات أخرى توضيحية في العام 1770، ومجلدان يحتويان على الكثير من الجداول وضعا في العام 1780. وهذا ما جعل ذلك العمل يستغرق من الوقت، أكثر من 28 عاماً، باعتبار أن الجزء الأول منه قد صدر في العام 1752، ومجلّدَي البيانات صدرا في العام 1780. وعلى هذا، تعتبر «الموسوعة» أطول الأعمال استغراقاً بالنسبة الى زمن إنجازها، كما أن حجمها النهائي (35 جزءاً) يجعل منها واحداً من أضخم الأعمال المعرفية حتى ذلك الحين. فإذا أضفنا الى هذا كله مكانة كتابها والمشرفين عليها، وعلى رأسهم ديني ديدرو، نصبح أمام عمل فريد من نوعه في ذلك الحين، وربما الى فترة طويلة تالية، ما يبرّر بالتالي السمعة المستقلّة التي صارت لها في منأى عن ذلك العمل الإنكليزي، الذي كان مطلوباً ترجمته أول الأمر، ثم محاكاته بعد ذلك وقبل أن يتم تجاوزه في نهاية الأمر. > غير أن هذا لم يكن، بالطبع، أهم ما ميّز «الموسوعة»، ولا حتى يميّزها التجديد الهائل الذي أضفته على ذلك النوع من الأعمال الفكرية، بتركيزها للمرة الأولى على الشؤون الميكانيكية والتقنية، ومزاوجتها بين النص المكتوب والرسوم التوضيحية، وتركيزها على المهن المختلفة داعية المتنوّرين من أصحاب تلك المهن الى صياغة النصوص الخاصة بمهنهم. إن أهم ما ميّز الموسوعة، وهو أمر لا يجوز الاكتفاء بالحديث عنه مرة ومرتين، كان روحها، وكمية الوعي والمشاكسة التي احتوتها، حتى في النصوص التي قد تبدو اليوم، الأكثر براءة وحيادية. فهذه «الموسوعة» كما أشرنا، كانت تمثّل، بالنسبة الى واضعيها، ميدان معركة أساسية وحاسمة: معركة موضوعها، كما سيرى سان جوست وغيره لاحقاً، إيجاد رؤية جديدة ومستقبلية يُنظر بها الى الواقع، واقع الحياة وواقع الإنسان. هذا الإنسان وقد استحوذ هنا، عبر المعرفة، على إدراك قوة الفعل التي يتمتّع بها، بعد أن كان يُراد له دائماً أن يجهل وجودها لديه. ولأن الموسوعة كانت، في جوهرها كما في شكلها ونصوصها وربطها بين المعارف، وربط هذه المعارف بحياة الإنسان وتطلعاته، تستجيب للأسئلة الشائكة والعويصة التي كان إنسان ذلك العصر يطرحها على نفسه ويبدأ بإدراك أن الأجوبة عنها، لا تقل صعوبة، لأنها أجوبة سياسية وعقلانية واجتماعية في المقام الأول، كان لها - أي للموسوعة - ذلك التأثير الكبير في قطاعات عريضة من الناس. وهذا الواقع أدركته قوى الظلام في ذلك الحين، بقدر ما أدركته قوى الوعي والتنوير. ومن هنا، ما إن صدر الجزآن الأولان، حتى مُنعت الموسوعة. وإذ تم التحايل على ذلك عبر الإشارة الى طبعها في الخارج. وجدت قوى الظلام طرقاً أخرى للتصدي لذلك العمل الفكري. وهكذا، انقسمت السلطات نفسها حيال ذلك العمل، وظلّ الانقسام قائماً طوال عقود. ولعل هذا الانقسام كان له الفضل الأول في إنجاز العمل وبلوغه غايته. > ديني ديدرو (1713 - 1784) على رغم أنه لم يكن وحده في العمل على «الموسوعة»، كان كما نعرف محرّكها الأساسي، وارتبطت لذلك باسمه. وهو كان عالماً وفيلسوفاً، بدأ حياته متحمساً لنزعة إيمانية عقلية، لكنه راح يتحوّل بعد ذلك الى العلمانية، والى التشبّث بنزعة عقلية راحت تهيمن على كتاباته، لا سيما منذ وضعه «أفكار فلسفية» (الذي تصدى فيه للتطرف الإلحادي، داعياً الى نزعة إيمانية تقوم على العقل)، ثم «رسالة الى العميان» التي عبّر فيها عن نظرة أكثر راديكالية، ما جعله يودع السجن. وهو مصير أنقذه منه بعد شهرين، تدخّل الناشرين الذين كانوا اتفقوا معه على تحرير «الموسوعة»، فاستجابت السلطات لتدخّلهم، وخرج ديدرو لينكبّ على تحرير ذلك العمل. الى هذا، كتب ديدرو في الأدب والمسرح والسياسة والفنون والفلسفة، كما كتب عن فن التمثيل. ومن أشهر كتاباته الأخرى: «الإبن السفاح» و «رب العائلة» و «التباس المثلين» و «الراهبة»، و «ابن أخ رامو» تلك الرواية التي كتب فيها ما يشبه سيرته الذاتية، وأخيرا «جاك القدري» التي لم تنشر إلا بعد رحيله.