الفرق بين كاتب الزاوية الرديء وكاتب الزاوية أو المقالة الجاد يكمن في أشياء عديدة ولكن من أهم هذه الأشياء الكتابة في العموميات. تستطيع أن تكتب عن الحرية مجلدات دون أن تصطدم بأحد. الحرية أو المرأة أو الدين أو الوطن إلخ فضاءات مفتوحة تسمح للإنسان أن يدون فيها ما شاء له قلمه. كل من هذه الفضاءات له مصطلحاته وتعابيره المبتذلة المتاحة للجميع التي تمسح للمرء أن يتحدث طوال سنوات دون أن يغضب أحدا. مفتاح الكتابة الجادة هي عبارة (دون أن يغضب أحدا). يمكن القول مع قليل جدا من التحفظ أن الجميع يؤمن بالحرية والجميع يؤمن بالوطن والجميع له دين يؤمن به إلى آخر الخطوط العريضة في الحياة. بيد أن تماس هذه الخطوط مع تفاصيل الحياة اليومية والممارسات والمصالح تجعل الأمر أكثر تعقيدا ويبدأ التحدي بين الكتابة الجادة والكتابة العمومية. تقرأ مقالا يحشد فيه صاحبه (الأمة الإسلامية ثلث سكان الكرة الأرضية يقدر عددنا بأكثر من مليار نسمة تحتكم على نصف ثروات الأرض من البترول ومعادن وأراضٍ خصبة ولا ينقصنا العلماء والمفكرون ونمتلك ولله الحمد الخبرة والعزة والكرامة علينا فقط أن نوحد الجهود والقدرات لتصبح أمتنا فاعلة وقوية) إلى آخر هذه التعابير المتدافعة. عندما تكتب هذه التعابير وترصف بطريقة احترافية يتحقق للمؤلف ما يصبو إلى دون أن يكون قال شيء يستحق القراءة. لو أعدنا تفكيك هذا الكلام فلن نجد في داخله أي شيء له معنى. إذا تناولنا كلمة الأمة الإسلامية. سنرى أنها كلمة جميلة ورنانة ومترسخة ولكنها لو تعرضت لاختبار لما خرجت بدلالة واضحة لها. الأمة الإسلامية خليط من البشر والثقافات واللغات والمذاهب والاختلافات الحادة. الصراع داخل هذه الأمة أشد ضراوة من الصراع بين هذه الأمة والأمم الأخرى. وعند قولنا في النهاية (علينا فقط ان نوحد الجهود والقدرات لتصبح أمتنا فاعلة وقوية) هذا الكلام الجميل العاطفي مبني على فرضية خاطئة من أساسها أو غير موجودة أصلا. عندما أتحدث عن أمتنا الإٍسلامية أو عن الحرية أو عن المرأة أو عن الوطن في المطلق فقولي في الحقيقة لا قيمة له وبالتالي لا يغضب أحداً. الكاتب الجاد يبدأ من التفاصيل ومن القضايا المحددة. اختلاف كبير بين قولي (من حق المرأة أن تحصل على حريتها) وبين قولي (من حق المرأة ان تسافر دون إذن أحد). في التعبير الأول كلام عام لا يعني أي شيء وليس له دلالة ولا ينعكس على الحياة ولن يغضب أحدا. أما في الثانية فهناك قضية حرية محددة وواضحة وقابلة للتنفيذ. وراء الأولى يتخفى الكاتب المزيف وفي الثانية يظهر الكاتب الجاد. ثمة نقطة مهمة اسميها العمومية بالاستثناءات. كاتب العمومية بالاستثناءات يمارس التضليل الأشد. هو مع وضد في نفس الوقت. تتجلى صورة هذا الكاتب أفضل ما تتجلى في الحوار حول حق المرأة في قيادة السيارة. فهو مع حق المرأة في قيادة السيارة و(لكن). (ولكن بعد ترصيف الشوارع وبعد تهذيب الشباب وبعد ضبط الأمن وبعد توسيع الشوارع) من خلال كلمة (لكن) يستطيع أن يعود إلى أي نقطة يشاء. يمكن تصنيف هذا الكاتب ككاتب عموميات يتحايل على التفاصيل بالتذاكي على القارئ أو ان تفرض عليه التفاصيل. تلاحظ أن كتاب (لكن) هم أقل الكتاب قيمة وحضورا وتأثيرا. يحتفظ القارئ باحترام للطرفين المتصارعين رغم تناقضهما ولا يولي كتاب (لكن) أدنى احترام.