بيّن الروائي الشاب فهد السيّابي والكتابة علاقة صداقة، فالكتابة عنده بمثابة الصديق الذي يلجأ إليه، كلما احتاج إلى الحديث، لكن هذا الحديث لا ينتقل بالآليات المعتادة، متذبذباً عبر الهواء، وإنما هو حديثٌ بلسان القلم، وعلى ظهر الورق، إذ يسكب السيّابي الشحنات التي تعتمل في داخله، فالأمر أشبه بحالة تقيؤ لا إرادي منك منذُ لحظة إمساكك بالقلم حتى توقفك بنقطة على آخر السطر كما يقول. بدأ السيّابي الكتابة قبل عامين تقريباً، وكانت كتاباتهُ منحصرة بالنصوص والخواطر، والقصص القصيرة، بالإضافة للخلاجات التي يقوم بتدوينها دون تصنيف، وخطوةً فخطوة، أصدر مؤخراً باكورته الأولى، رواية أن تدفن حياً التي صدرت عن الدار العربية للعلوم، والتي من المقرر أن تنشر في مكاتب المملكة قريباً. ] بدايةً.. حدثني عن روايتك أن تدفن حياً من حيثُ الموضوع والفكرة؟ الرواية بُنيت فكرتها الرئيسة على قضية الدعارة. تتفرع - هذه الفكرة - إلى أفكار أخرى تم التطرق إليها، ولو بشكل غير تفصيلي كالحب، والخيانة، وقسوة الأهل، والجهل، والمرض، والفقر. فتاة تغدر فيها الظروف، فتسحبها إلى قاعها الموغل بالعوز والفاقة لتلجأ إلى أن تنتشل نفسها، وأخيها الذي يبلغ من العمر خمس سنوات، وأمها المريضة بالسرطان من عصف المرض، والجوع، ومتطلبات الحياة المُثقلة، وهي تغزوهم. فكان أنّ قُدّر لها، أن تلجأ - عبر صديقتها إلى وكر الدعارة في أحد الفنادق الراقية. كان تركيزي في الرواية ينصب في وصف النفس، وهي تتألم وتتعذب وتعيش معاناة قاهرة، ولكن ما من شيء تصنعه أو تملكه، يقيها شرّ هذا الطريق الذي يعبّد، في وقت كان هو المدخل الوحيد، لتنجي بسفينة عائلتها من الغرق في بحر المرض، والفقر، والجوع، والموت. ] أنت بذلك تسرد آلاماً ومآسي فئة توجد في أغلب المجتمعات البشرية.. فلماذا اقتصرت على سرد الظاهرة دون الوقوف على معالجتها؟ العلاج في الرواية لا يقدم على طبق من سطور قلّة. فالرواية هي ليست صيدلية، تتوفر فيها جرعات الأسبرين أو البندول، وبمجرد أن شعرت بسعال أو ألم في رأسك قمت ببلع حبة من أيّ منهما. أنت تكتب الرواية لتتساءل، لتستخدم عدسة الزوم على القضية التي تريد أن تتحدث عنها وتطفها على السطح بعد أن كانت غائرة في القاع. ما عليك هنا، سوى أن تقدم الحقائق، والبراهين، والمسببات، والظروف التي تودي إلى ظهور وتفاقم الحالة، وجعلها تسير في اتجاه غير سوي، يمكنني القول. كما يصحب ذلك أيضاً، ذكر أثرها البالغ في النفس والبيئة التي انبثقت منها، وإلى أيّ مدى يتطاير شررها، وتصيب الأفراد التي تحطوها. القارئ وحده، عندما تكشف له هذه الأبعاد، وتزاح عنه الغمم، وتتضح له الصورة بشكل أكبر، هنا هو، وبنفسه يستشف الأعراض، ويقول لولا هذا ما حدث هذا أو هذا السبب أدى إلى هذه النتيجة ..يجب علينا أن نلتفت إلى هذا الأمر أو تجعله يحلل ويفكر في كيفية تسوية الأمور، وعودتها إلى مجراها الطبيعي، إلى طريقها السوي عبر المعطيات التي طُرحت له وفق اتساع مداركه. فأنت لا يمكنك أن تكتب، وبشكل صريح خذ هذا دواؤك، وستشفى وكأن في قولك هذا، شيء من السحر. فعندما تقوم أنت بحل اللغز، بطلت حيرتك، وجهلك فيه. رسالتي في هذه الرواية على صعيديّ النفس والروح، ألا وهي عندما تمتلك إيماناً عميقاً، بإمكانك أن تخرج من وحلك - رغم تصورك بأنك عاجز وغير قادر البتة - بشكل صارخ. ] هل استندت للواقع في تشكيل شخوص روايتك؟ شخصيات روايتي هي واقعية خيالية، كما هي قضيتي في الرواية.. فالشخوص، وأسماؤها، جاءت متخيلة، ولكن الكثير من تصرفاتها وتفاعلها مع المواقف ونفسيتها، وربما أغلبها جاءت حقيقية. مستقاة من إيمان، وتجارب ومبادئ ومعقتدات أناس كثر، لها تأثير. أيضاً، القضية، والمحاور التي انبثقت من خلالها، وتطرقت إليها، كانت حقيقية، ومستقاة من الواقع إلا أن حبكة أحداثها وبناء مواقفها، جاءت من المخيلة. ] يثار دائماً موضوع حضور الكاتب في روايته، أكان هذا الحضور بالمواقف، أو بالسيرة، أو غير ذلك... أم أنك تبرئ نفسك من أي أشكال الحضور؟ من المعروف إن كلّ كاتب يترك شيئا منه في المخطوط الذي يكتبه ويخلفه وراءه، وإن كان يخفى ظاهرياً على القارئ. ولكن، لا أعرف إن كنت - شخصي أنا ككل - أثناء كتباتي للرواية خلفّتهُ ورائي، وبدا فهد السيّابي ماثلاً أمام السطور أو حتى مختبئاً بينها. ولكن الذي أعرفه، أن ثمة احتمال أن شيئا مني سقط في الرواية. ] لابد أن لبعض الروائيين والكتاب حضور وتأثير عليك ككاتب شاب.. بمن تأثرت سواء على النطاق المحلي أو العربي أو العالمي؟ من بين الكتاب الذين أعشق قراءتهم: ليلى العثمان، أحلام مستغانمي، إسماعيل فهد إسماعي، وهو أكثر كاتب وروائي تأثرت به، ووجدت نفسي بين سطوره الملتاعة. يبهرني في عملية كشفه للنفوس وسبر أغوارها. كذلك الروائي القدير عبده خال. كنت التهم كتبه التهاماً غير طبيعياً، ربما مرضياً، وقتها - أثناء قراءتي له - أكون في حالة نهم، لا يشبعني مهما أكلته من سطوره. كتابة فذّة، أستطيع تمييزها من بعيد، كالرضيع الذي يتعرف على أمه من شمه لرائحة جسدها. هو وحده، من أشعل فتيل الكتابة الذي كان رفيعاً، ومتخفياً بداخلي. ولا أنسى ما قاله لي عندما كنت على تواصل معه، وأعطاني حافزاً أكبر للنشر من بعد تشجيع زميلتين لي في الجامعة، إذ قال: تعتمد جودة الكتابة في المقام الأول على رضى الكاتب بما كتب، والجرعة الثانية عدم الخشية مما كتب سواء مساءلة أو انتقاد، وجراءة النشر هي قرار خاص سواء كان العمل جيداً أو متواضعاً. ] يقر كثير من محترفي الكتابة بأن الكتابة ليست موهبة وحسب، بل حرفة يتعلمها الكاتب، ومن ثم يحترفها باجتهاده.. أنت ككاتب مبتدئ كيف ترى الاشتغال في الكتابة؟ وهل تقتصر على ما يسمى بـ الإلهام أم تجنح للتعلم والقراءة عن فضاءات الكتابة واحترافها؟ أنا مقتنع أن الأفكار هي من تأتيك عن طريق الإلهام، وبعدها، تشرع أنت بقولبتها، وتمحيصها، وإلقائها في مختبر عقلك كشريحة ستخضع للتشريح والاختبار. أما الكتابة فتحتاج إلى جهد وقوة لا يمكن لأحد أن يتخيلها أو يستسهلها- كما كنت -، وعجبتُ أنا من كم التعب عندما شرعت في كتابة عمل جدي وطويل -بالنسبة لي - مثل عملي. كنت أتساءل أيعقل أن الكتّاب والأدباء يعيشون مثل هذا التعب؟. أنا أؤمن، أن الكتابة تنضج على قدر قراءاتك للكتب، وكمها. فعندما تقرأ كثيراً، تستطيع أن تكتب كثيراً، وعميقاً في الوقت عينه، كالحال لديّ. قد تكون الكتابة موهبة كما يقول البعض، ولكن كيف لهذه الموهبة أن تصقل وتقوّم؟ فرضاك على الثبات في المستوى نفسه، دون التزحزح، لا يحقق لك ناجحاً، ولا يشكل عائداً لموهبتك. الكتابة فعلاً، هي حرفة، ووحدك القادر على رعايتها، وتربيتها لتنمو كشجرة وفق اطلاعك، وقراءتك النهمة، وصقل مبادئك ومعتقدك، وممارستك لها، والدليل على أنها حرفة، هو ما أنتجته الآن بعد رصيد من القراءة والكتابة والمعرفة والاكتشاف بعد أن كنتُ لا أفقه بكتابة، وتركيب جمل مفيدة، وجيدة على السطر. ] ككاتب شاب لابد وأن لديك أهدافاً وآمالاً تود تحقيقها على المستوى الأدبي.. فهل تطمح لتكون ممثلاً للمملكة في المسابقات العربية الكبرى، كجائزة الرواية العربية البوكر مثلاً؟ ككل إنسان طموح، فمن المؤكد أنّي أسعى لتحقيق المزيد من الإنجازات، ولو كان إنجازاً متواضعاً. فالإنجازات الصغيرة تجرُ خلفها الإنجازات الكبيرة. لدي إيمان عميق بهذا الأمر. لا أخفيك أنني عندما أقرّ البدء في عمل أدبي جديد، سأضع جائزة البوكر للرواية العربية نصب عينيّ. والتوفيق والخير الكثير في النهاية، دوماً ما يأتيك من حيث لا تحتسب، إن كنت مخلصاً في عملك، ولديك إيمان عميق بربك.