عندما رحل المطرب الكبير محمد عبد المطلب في مثل هذا اليوم قبل خمس وثلاثين سنة (21 /8/ 1980)، كنت يومها أصدر مجلة ثقافية أسبوعية في بيروت (المصباح) كتبت فيها مقالاً بعنوان مات المطرب، وقد نزل بتوقيع أخي سليم سحّاب لخطأ مطبعي. وقد قلت في هذا المقال: إننا من شدة ما ألفنا كجماهير عربية، صوت هذا المطرب، فقد فوجئنا أنه رحل في هذا العمر( 74 عاماً) الذي لم نكن قد شعرنا بأنه بلغه. هذا الشعور حقيقي، فنادرة هي الأصوات العربية في القرن العشرين التي ولدت بينها وبين جمهور المستمعين من المحيط إلى الخليج، هذه الألفة التي تجعل المستمع لا يحس بمرور العمر، لا عمره، ولا عمر المطرب الذي يألفه ويحبه. ولد محمد عبد المطلب في العام 1904، ونزل من الريف إلى القاهرة في العام 1925، كما يقول في مذكراته (التي سجلها في حلقة مركزة لإذاعة صوت العرب)، يوم صدور العدد الأول من مجلة روزا اليوسف، التي ما زالت تصدر حتى يومنا هذا. في تلك الأيام كان نجمان جديدان يتربعان على عرش الغناء العربي في مصر: محمد عبد الوهاب بين الرجال، وأم كلثوم بين النساء. لكن محمد عبد المطلب اهتدى على ما يبدو منذ خطوته الأولى، إلى البداية الصحيحة، فذهب إلى أحد أكبر الملحنين المخضرمين بين القرنين التاسع عشر والعشرين، داود حسني، يطلب إليه النصيحة لاحتراف الغناء الذي كانت هوايته مسيطرة عليه، ودفعت به إلى الانتقال من الريف إلى القاهرة. ونظراً لما لمسه داود حسني من مواهب صوتية وإحساس سليم لدى المطرب الهاوي، فقد أمضى عاماً كاملاً في تحفيظه زبدة تراث القرن التاسع عشر، مع تدريبه على وسائل أدائه. لما انتهت هذه المرحلة الأولى، اعتقد محمد عبد المطلب أن بوسعه الانطلاق إلى احتراف الغناء. لكن الملحن والمطرب المجرب (تلميذ محمد عثمان) داود حسني نهاه عن ذلك وقال له: لا يمكنك أن تمارس الغناء، قبل التدرب لسنة كاملة على أداء أذان الفجر، في أحد الجوامع الشهيرة (ذكر له اسم الجامع المقصود). وقد كان من حسن حظ محمد عبد المطلب أن أطاع توجيهات أستاذه. وبدأ بعد ذلك يفكر في البداية الأسلم للانطلاق بخطواته الأولى في احتراف الغناء. عند هذا الحد من العامين 1927 و1928 كان المطرب الجديد الخطير محمد عبد الوهاب قد أكمل تربعه على عرش الغناء، في مرحلة المواويل والأدوار والقصائد مثل يا جارة الوادي وعلموه كيف يجفو وسواها.. ويبدو أن محمد عبد المطلب قد وجد من ينصحه بأن أعظم مدرسة لبداية ممارسة الغناء (بعد الإعداد الأولي الذي صرف فيه أكثر من سنتين) هو مدرسة المذهبجية، أي الكورس الذي يردد الغناء وراء مطرب كبير، فلم يجد عبد المطلب خيراً من الانتساب إلى كورس محمد عبد الوهاب. ومن يستمع إلى أدوار محمد عبد الوهاب بالذات، ودور أحب أشوفك كل يوم بشكل خاص، يلحظ بين أصوات الكورس المصاحب، خاصة في مقطع الآهات وسط الدور، صوتاً مميزاً يتصف بالفخامة والإحساس العميق، هو صوت عضو الكورس آنذاك محمد عبد المطلب. ومع أن عبد المطلب انطلق بعد ذلك إلى الغناء المنفرد، فقد ظل يحظى بعناية خاصة من الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي أنتج له فيلم تاكسي حنطور. لكنه سرعان ما خرج من عباءة عبد الوهاب، خاصة عندما تعرف إلى الملحن الجديد الموهوب محمود الشريف (صاحب نشيد الله أكبر)، فكوّن معه ثنائياً فنياً أتحفنا بأروع أغاني الطرب المصري الأصيل مثل: بتسأليني بحبك ليه، ودع هواك، أنا وانت في الهوى، وسواها. التفوق السريع لهذا الصوت الجديد، الذي اختط لنفسه لوناً مدهشاً من الطرب ذي الطابع المصري الأصيل، سرعان ما فرض نفسه على كبار الملحنين مثل رياض السنباطي (شفت حبيبي) ومحمد فوزي (ساكن في حي السيدة) وعزت الجاهلي (حبيتك وبحبك) وكمال الطويل (الناس المغرمين) وسيد مكاوي (اسأل مرة علي). وكان صوت محمد عبد المطلب الرائع، وأسلوبه المتمكن في الأداء، يفرضان نفسيهما على كل ملحن له مهما غير أسلوبه اللحني، فتجده يضع لعبد المطلب لحناً رائعاً، بأسلوب هذا الأخير في الطرب الأصيل، حتى أصبحت حفلات محمد عبد المطلب المسرحية، من أروع ما استمعنا إليه من حفلات الطرب الأصيل في القرن العشرين، وذلك حتى يوم رحيله المتأخر في العام 1980، في مواجهة كل موجات التجديد التي كانت تقع أحياناً في مجال التغريب.