هي حكاية أول يوم لي في روضتي الموعود بها كخيار أكثر إمتاعاً وتسلية من البيت، وأول يوم أفارق فيه حُضن أمّي، ودفء مَخدعي، وأصدقائي من الألعاب الذين يشاركونني متعة الخيال واختراع الحكايات، فكيف لي أن أترك كل هؤلاء عنوة وأتوجه إلى مكان لم يفلح خيالي العبقري أن يرسم له صورة مشجعة؟ إنّني لم أتعرفه من قبل، ولا أعرف على ماذا يحتوي ولا من يلج إليه أو يخرج منه، وما زاد من خوفي وحيرتي هو كم من الوقت سأمكث فيه حيث لن أسمع صوت أمّي حين تناديني، ولا ضحكات أختي الصغيرة حين أختبئ خلف الستارة ثم أفاجئها بالظهور، فبِت في قلق وتوجّس وتمنيت حينها لو لم يطلع الصبح. لم أنتظر أن يوقظني أحد، وأزعجني ابتسامة أبي عندما رآني متسمراً فوق سريري، قد ضننت عليه بطرفة من عيني ولما حاول الاقتراب مني تشنجت وأعلنت العصيان وارتفع صوتي بالبكاء فلعلّه يجدي نفعاً فيتركني وشأني لكن ذلك لم يحدث بل مشى نحوي رويدا رويدا، وجذبني إليه برفق، وضمني إلى صدره وأخذ يمسح على شعري ويربت على ظهري ويردد بنبرة حانية أحبك يا بني وسأعود لآخذك بعد ساعتين ثم أمسك بيدي ورفع منها إصبعين وهو يقول: ساعة، وساعة، ثم ستناديك المعلمة لتخرج إليّ. لقد أبهجتني وعوده البيضاء فاستسلمت مرغماً فمسح دموعي بكفّه التي تشبه في تلك اللحظة فرو عصفوري الكناري، وحملني معه إلى بيت الماء واعتنى بتفاصيل نظافتي ومظهري وختمها برشة من عطره الذي أحبه ثمّ أمسك بيدي وخرجنا تُشيعُنا أمّي بدعواتها، وأختي بصياحها، وعندما أوصلني إلى السيارة أجلسني في المقعد الأمامي ولفّ حولي حزام الأمان فاستنكرت بادئ الأمر لكن ما لبث أن زال استغرابي حينما نزل السائق وركب أبي مكانه وانطلقنا وقد امتلأت نفسي رضاً وحبوراً.