قدم الأدب العالمي والعربي طوال مسيرته القائمة منذ مئات السنين الكثير من الأجناس الأدبية التي توثق المراحل الزمنية بشكلها التاريخي، فأنتج ما اصطلح عليه نقدياً السير الذاتية أو السير الغيرية، حيث باتت المراحل التاريخية بكل محمولاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مختزلة في سيرة شخصية أدبية أو فنية، أو فكرية. انفرد ذاك الجنس الأدبي بقدرته على أنسنة المحمول التاريخي، وتقديمه بصورة حية تكشف الجوانب الأكثر تفصيلاً ويومية في تلك المراحل، على عكس ما ظلت تقدمه الكتب التاريخية من معلومات قائمة على سرد الأحداث بصورة جامدة مشغولة بالتواريخ. يظهر هذا بالنظر إلى نماذج متعددة من السير الذاتية للأدباء والفنانين، حيث تنكشف صورة الحياة بكل تفاصيلها، فما من نص تاريخي يمكنه أن يوثق حياة الشاعر والروائي سليم بركات كما فعل في الجندب الحديدي، وما من نص وثائقي يمكن أن يكشف حياة الريف الجزائري من الداخل كما فعل واسيني الأعرج في عشتها كما اشتهي. ليس ذلك وحسب فالسير الذاتية لا تكشف هامش المراحل التاريخية وحسب، بل تثير تساؤلات جوهرية حول الكثير من التيارات السياسية التي قدمتها النصوص التاريخية، والتنظير الفكري السياسي، إذ تكشف سيرة المفكر والمؤرخ حسين مروة ولدت شيخاً وأموت طفلاً عن تفاصيل الفعل السياسي اليومي لتيارات حزبية شكلت ملامح المرحلة العربية في ستينات وسبعينات القرن الماضي. ينكشف هذا أيضاً في السيرة الغيرية للفنان التشكيلي العالمي بابلو بيكاسو، والتي كتبتها حبيبته فرنسواز جيلو بالتعاون مع محرر الفنون التشكيلية الصحفي كارلتون ليك، إذ تفتح باباً على عوالم الحياة الإسبانية خلال حكم فرانكو، وعوالم الصراع النازي على الأرض الفرنسية، وأساليب التفتيش، والتحقيق، وحتى صورة الحياة الثقافية في ظل القبضة السياسية الجائرة. لذلك تنكشف عوالم الحياة بكل تفاصيلها وسيرتها الزمنية عبر السير الذاتية، أكثر مما تنكشف في النص التاريخي أو حتى النص الروائي الذي يتفلت من مفهوم المصداقية وقد يجمح عن الحقائق ويعيد بناءها بما يخدم النص الروائي، كما فعل الكثير من كتّاب الرواية في العالم الغربي، والعربي. لهذا يبدو التساؤل مشروعاً عن منجز السيرة الحياتية في أي حياة ثقافية، للكشف عن العوالم الكامنة في العتمة والبعيدة عن الصورة الواسعة والجاهزة لمختلف المراحل والحيوات التاريخية في أي بلد من بلدان العالم، فالقارئ يمكنه معرفة الحياة الشعبية الصينية عبر سيرة الكاتب سوتينغ في رائعته الفرار من العام 1934 ويمكنه قراءة تاريخ الحياة اليومية للمجتمع الكولمبي في سيرة ماركيز عشت لأروي. لذلك كم نحن اليوم بحاجة إلى السير الذاتية لحياة كبار أدبائنا، وفنانينا، وكم كان مهماً لو كتب كل كاتب سيرته على امتداد الكرة الأرضية، وهل حينها كنا سنلقي كتب التاريخ جانباً وننغمس في سير أدبية شائقة؟ Abu.arab89@yahoo.com