من يعرف الناقد والكاتب الصحفي فائز أبا يدرك كم كان هذا المبدع قادراً على تفزيز الراكد في الساحة الثقافية عبر قراءات متفرّدة، فهو من الكُتّاب الذين اختطوا لأنفسهم صوتاً نقدياً وثقافياً مختلفاً، وكان بحق كاتباً معاصراً يأتي من اسراره ودفائنه ومن أطيافه وهواماته، فكنت تقرأ فائزاً فيفتح لك الكتابة على أقاليم اللا معقول ومساحات التخيل ويجعلك تشتبك مع نصوص مختلفة في جدّتها ويجعلك تخترق فضاءاتها التأويلية بمتعة لا تجدها إلا في قراءات فائز أبا. لقد كان فائز من تلك الندرة النادرة التي لم يرتهن قلمها للتناولات الثقافية التي تحوم حولها الشخصنة، بل كان قلماً نزيهاً مهجوساً بالثقافة الحقيقية، لم يكن ليتجمّل أو ينغرس في الصحافة التطبيلية، إذ المعيار الذي يحتكم إليه هو المعطى والمنجز الثقافي الرصين الخليق بالمتابعة والنقد، وعدا ذلك فيعرض عنه صفحاً. هكذا عرفنا فائزاً قلماً حُرّاً لا يُزايد ولا يستعرض بطولات وهمية بل ينأى ما أمكنه عن ساحات الصراع التي لا تخدم الفعل الثقافي الحقيقي رغم أنه قلم شديد المراس وله سطوة لا تخفى على من عاصر فائزاً أو قرأ له. لكن - وكعادة المبدع - حين يضيق بهشاشة ما يُطرح وحين يشعر بحساسيته المفرطة أن المشهد لم يعد جاذباً أو مغرياً بما يكفي فقد آثر العُزلة والركون إلى خلوته إذ ليس ثمة ما يحفّز على الكتابة أو المتابعة. لا لوم على ناقدنا الجميل هذا الموقف سيما وأن المشهد الثقافي عرف عنه الجحود والنكران لرموزه ولم نجد أديباً أو مثقفاً أو فاعلاً في الوسط الصحفي تم تكريمه أو الاحتفاء به في حياته، حتى تأبين المثقف يأتي كنوع من أداء الواجب ولذلك تجده باهتاً لا يكشف عن جانب خفي في حياة الشخص المُؤبّن وإنما فذلكات كلامية لا تقدّم ولا تؤخر. ولنا في تكريم عدد من الراحلين خير مثال لو أحببنا الاستعراض. ويبدو أن الجهات المعنية بالتكريم باتت على درجة من التبلّد ما يجعلها على وئام وتصالح مع هذا الجحود لقامات فكرية وثقافية أثرت مجتمعها ومواطنها بأفكارها وآثارها المختلفة، وهو جهد ثمرة عصارة فكر وسنوات طوال كدحها هذا المفكّر والأديب من أجل بث التنوير والإشعاع المعرفي لكنا نقابله أفراد ومؤسسات بجحود أو تكريم واحتفاء لا يليقان بما قدّم هذا المثقف. لست أول ولا آخر من يطالب بهذا التكريم رغم أنها مناشدات لا تلقى أصداء أو تفاعلاً يشي بأن المشهد يعيش حراكاً ثقافياً لكن اشعال شمعة خير من لعن الظلام. ولعل من المفيد الإشارة إلى تحقيق نشرته الزميلة" الشرق" عن المترجم والناقد والسارد والأكاديمي فائز أبا، فقد تضمن التحقيق مطالبة بتكريمه كما أشار أصدقاؤه ومجايلوه منهم الدكتور سعيد السريحي الذي عبّر بلهجة يائسة ومحبطة قائلاً:"لم نكن مؤهلين لكي يبقى فتى فينا كفايز أبا، فقد اتسعت الحياة حتى مزقت إهابه الرطيب، اكتظت ذاكرته حتى تفجر الدم في كلماته، وتطابقت حريته مع مسلكه حتى لم يعد جسده قادراً على حملها" فيما نقل التحقيق عن فائز نفسه معلقاً على التكريم بقوله:"ربما التكريم الوحيد الذي سيفرحه هو التنقيب عن إرثه العظيم في أرشيفات الصحف المحلية التي نثر بين طياتها حبره وحرفه ودمه وحلمه منذ قرابة أربعة عقود، لإظهارها في سلسلة كتب، تمثل شاهداً عميقاً على حقبة أدبية في مسيرتنا الحضارية في كل مشهد ثقافي" فهل تخيّب المؤسسات الثقافية ظنّنا وتفعلها وتكرّم فائزاً بنشر نتاجه المتناثر أو سيلحق غيره ممّن طالتهم لعنة الجحود؟