إذا ما نظرنا إلى طبيعة التفاعلات السياسية الإقليمية والدولية في بحر الصين الجنوبي منذ بداية حركة الصعود الصيني في تسعينات القرن العشرين وحتى الآن سنلحظ أن السياسة الصينية قامت على تهدئة مخاوف الدول الآسيوية المحيطة ببحر الصين الجنوبي والتي لها مطالب في هذا البحر خاصة فيما يتعلق بالسيطرة على الجزر المنتشرة به واستغلال الثروات الطبيعية المعدنية والنفطية والغازية الكامنة فيه، وذلك من خلال التركيز على التعاون الاقتصادي والتجاري بينها وبين هذه الدول والتأكيد على إمكانية حل أي خلافات بالطرق السلمية. الصين لم تتحمس لإجراء أي تسوية للنزاعات القائمة بينها وبين الدول المحيطة ببحر الصين الجنوبي بشكل جدي، الأمر الذي يمكن تفسيره بعدة اعتبارات أهمها ما يلي: 1 - أن الصين تطالب بالسيادة الكاملة على بحر الصين الجنوبي والجزر الموجودة به ومن ثم فلا محل لمطالب الدول الأخرى المطلة على هذا البحر وبالتالي فإن هذه النزاعات نزاعات مفتعلة وتحركها القوى الخارجية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي لا ترغب في نهوض الصين وتحاول إعاقته. 2 - إنه من الأفضل تأجيل اتخاذ إجراء حاسم بشأن ما تدعيه هذه الدول من نزاعات حتى يتحسن توازن القوى في المنطقة لصالح الصين بشكل واضح ومؤثر تستطيع معه فرض إرادتها وسيادتها على هذا البحر. 3 - التركيز على إمكانية بناء شبكة من المصالح المشتركة مع هذه الدول التي تجعل تكلفة تصعيد هذه الدول في مواقفها تجاه القضايا التي تراها محلاً للنزاع مع الصين تكلفة مرتفعة الأمر الذي يضع حدوداً على احتمالات هذا التصعيد. وفيما يتعلق بالسياسة الأمريكية يبدو أنها قامت على عدة أسس بشأن هذا البحر أهمها ما يلي: ا - القبول بالتوجه الصيني نحو تهدئة مخاوف الدول الآسيوية وتأجيل اتخاذ أي إجراءات لتسوية هذه النزاعات باعتبار أن هذا يصب في صالح الولايات المتحدة في إداراتها للصراع مع الصين، حيث تعد هذه النزاعات بمثابة نقاط الضعف الكامنة في الموقف الصيني والتي يمكن للولايات المتحدة تحريكها للضغط على الصين عند الضرورة. ب - الحرص على أن تكون عنصراً حاسماً في توازن القوى الإقليمي بين الصين وهذه الدول بحيث لا تتاح الفرصة للصين لفرض سيطرتها على هذا البحر وتحقيق مطالبها السيادية عليه بالكامل، وذلك من خلال التواجد العسكري البحري المستمر بأشكال وصور متعددة في الإقليم، إضافة إلى تقديم الدعم العسكري لهذه الدول لزيادة قدراتها على مواجهة أي تهديدات صينية محتملة. أما الدول المطلة على هذا البحر ومنها الفلبين وفيتنام وبروناي وماليزيا فقد تعاملت مع الأمر الواقع فحاولت الاستفادة من التعاون الاقتصادي والتجاري مع الصين الصاعدة والاحتفاظ بعلاقات استراتيجية مع واشنطن لتحقيق القدر المناسب من التوازن الإقليمي بينها وبين الصين. استمرار هذا الوضع يمثل الاتجاه العام لطبيعة التفاعلات الدولية والإقليمية في بحر الصين الجنوبي خاصة، وإنه في عام 2002، تبنت الصين ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ميثاق شرف لأطراف بحر جنوب الصين، تضمن حظراً على أي طرفيقوم بأي إجراءات أحادية استفزازية خاصة في عمليات التنقيب عن النفط والغاز، وتعهدا بامتناع هذه الدول عن احتلال الجزر المرجانية غير المأهولة في البحر أو إقامة منشآت جديدة عليها يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الخلافات بينها، والشروع في التفاوض على إيجاد صيغة للاستثمار المشترك للمنطقة المتنازع عليها ولكن بداية التغير ظهرت، خلال القمة السادسة عشرة لمنظمة دول جنوب شرق آسيا في العاصمة الفيتنامية هانوي في أبريل/ نيسان 2010 عندما ألقت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون كلمة اعتبرت فيها أن استمرار التوتر في بحر الصين الجنوبي يقوّض المصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وطالبت بضرورة إيجاد آلية دولية لحل النزاع، ووافقت على ذلك 12 دولة لا علاقة لكثير منها بالنزاع الجاري لكنها رأت أن القوة المتصاعدة للصين تجعل من التفاهم الموقَّع قبل ثماني سنوات ليس ذا معنى. وبدأت بعد ذلك الفلبين وفيتنام في اتخاذ إجراءات أحادية في خروج واضح على ميثاق الشرف، ففي 20 يوليو/ تموز 2011 وصلت مجموعة من المشرعين الفلبينيين جوا إلى جزيرة تشونغ يه داو الواقعة في البحر، ورفعت العلم الفلبيني على أرض الجزيرة، في ادعاء بسيادة بلدهم على المنطقة، الأمر الذي اعتبرته الصين انتهاكا لسيادتها وسلامة أراضيها بشكل خطر، مؤكدة أن بحر جنوب الصين والمياه المحيطة به جزء لا يتجزأ من أراضي الصين، كما يثبت التاريخ كما اتهمت الولايات المتحدة بالتحريض على إثارة النزاعات في بحر الصين الجنوبي رابطة بين ما جرى في قمة دول جنوب شرق آسيا ومثل هذه التصرفات، ومنذ ذلك اتسم الموقف في بحر الصين الجنوبي بسمة التوتر المتصاعد بحذر، حيث إن كل الأطراف المعنية الإقليمية والدولية لا ترغب في التصعيد المبالغ فيه أو الوصول إلى مرحلة حافة الهاوية لتعارض ذلك مع مصالح كافة هذه الأطراف من جانب ولارتفاع تكلفته وأعبائه عليها والسؤال الذي يفرض نفسه الآن يتعلق بالأسباب التي أدت إلى هذا التغير ومستقبل الوضع في بحر الصين الجنوبي في سياق التنافس الجاري بين الصين والولايات المتحدة. وفيما يتعلق بالأسباب يمكن إيجازها في أن تنامى عناصر القوة الاستراتيجية المستمر قد وصل إلى مستوى يمثل تهديداً مباشراً للقيادة الأمريكية للنظام الدولي الأمر الذي دفع واشنطن إلى تبني استراتيجية جديدة عرفت باستراتيجية التوجه نحو آسيا أو إعادة التوازن، اشتملت فيما يتعلق بالصين بالحد من هذا التنامي وتحجيم النتائج التي ترتبت عليه في النقاط الاستراتيجية المهمة بالنسبة للصين، وتحويلها إلى مناطق صراع يمكن من خلالها استنزاف قدر مناسب من عناصر القوة الصينية. وبالنسبة لسيناريوهات المستقبل يمكن القول إننا أمام ثلاثة سيناريوهات على الأقل ، الأول هو سيناريو التصعيد الحذر من جانب كل الأطراف ويعتمد على استخدام ما نسميه أساليب الضغط المرن بين أطراف الصراع وهو سيناريو يستهدف تحقيق كل طرف لنقاط معينة من دون الوصول إلى مرحلة حافة الهاوية أو المواجهة المباشرة، السيناريو الثاني هو سيناريو التهدئة والتخفيف من حدة التوتر وهو يتوقف على مدى قدرة الدبلوماسية الصينية على إقناع الأطراف المعنية برؤية الصين لصيغ التعاون المشترك في استثمار موارد البحر، وكذلك قدرتها على بناء تحالفات مع بعض القوى الإقليمية أو إحداث اختراق في التحالف الأمريكي الآسيوي المضاد. السيناريو الثالث هو ما نطلق عليه بالسيناريو الآسيوي الذي يقوم على استبعاد واشنطن بقدر الإمكان من المعادلة وتوصل القوى الآسيوية الإقليمية لاتفاق حول أساليب فض وتسوية النزاعات القائمة فيما بينها وهذا السيناريو يتوقف على مدى قدرة الصين على تقديم بعض التنازلات اللازمة للوفاء بجانب من مطالب الدول الأخرى المطلة على بحر الصين الجنوبي، والأقرب للاحتمال هو سيناريو الضغط المرن بالمفهوم المتقدم مع الأخذ ببعض عناصر سيناريو التهدئة عند الضرورة. ومن ثم فإن بحر الصين الجنوبي سيظل إحدى الساحات المهمة للتنافس على قيادة العالم دون حسم واضح له. لذلك، ظلت السيطرة على المحيط الهادئ خاصة على بحري الصين الشرقي والجنوبي تشكِّل طموحاً إستراتيجياً للقوى الكبرى على مرّ العصور، فهو يمثل الظاهرة البحرية المهيمنة جيوسياسياً على مجمل منطقة جنوب شرق آسيا لإطلاله على جنوب الصين وشمال إندونيسيا وشرق فيتنام وغرب ماليزيا. ويضم بعض الممرات الاستراتيجية المهمة التي تتحكم في النسبة الأكبر لحركة الملاحة البحرية الدولية كممر سوندا الذي يصل جنوب شرق آسيا بأستراليا وممرلومبوك الذي يربط إندونيسيا بالمحيط الهندي، وملقا الذي يربط المحيط الهادئ بالهندي حيث يمر نحو 70% من ناقلات النفط في طريقها من الشرق الأوسط إلى شرق وجنوب شرق آسيا وكذلك أكثر من نصف سفن شحن التجارة الدولية. ٭ أستاذ العلوم السياسية جامعة حلوان- مصر