باتت الهجمات والتفجيرات التي يشنها حزب العمال الكردستاني على تركيا بشكل شبه أسبوعي في الفترة الأخيرة، مصدر قلق للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحكومته، والأكثر خطورة أنها دقت جرس الإنذار في عديد من المؤسسات المالية والاستثمارية ولدى رجال أعمال دوليين استثمروا مليارات الدولارات في تركيا أحد أبرز الاقتصادات الناشئة في العالم. ويشهد تقييم الوضع الاقتصادي في تركيا حاليا ومستقبلا تباينا واضحا بين عديد من المختصين ورجال الأعمال. فبعض رجال الأعمال يعتقدون أن الهجمات التي تتعرض لها تركيا لم تدخل بعد في نطاق الهجمات "المروعة" التي تدفع إلى "فرار" رؤوس الأموال الأجنبية من البلاد، لكنها بلا شك تخلق وضعا اقتصاديا غير مريح. ويقول لـ "الاقتصادية"، توماس جيبسون وهو رجل أعمال بريطاني يمتلك عدداً من الشركات الصناعية في بريطانيا وتركيا، "إنه مما لا شك فيه أن رأس المال الأجنبي لن يكون مستريحا لتدهور الوضع الأمني في تركيا، أو دخول أنقرة الحرب، لكنه أيضا لن يضيع فرصة استثمارية جيدة كالأسواق التركية، فالاقتصاد التركي يتمتع بمرونة ملحوظة، وعلينا أن نلاحظ أنه اليوم، وعلى الرغم من الهجومين اللذين استهدفا القنصلية الأمريكية ومخفرا للشرطة ومقتل عدد من الأشخاص فإن الليرة التركية ظلت عند مستويات مرتفعة". والتر روبنسون مختص في المجال السياحي ويعمل في مجال الأفواج السياحية البريطانية المتجهة إلى تركيا يختلف موقفه عن موقف جيبسون، ويشير إلى أن السياحة تعد عصبا أساسيا في الاقتصاد التركي، خاصة فيما يتعلق بتوفير العملات الأجنبية، ومع تدهور الوضع الأمني فإن ذلك سينعكس سلبا على أعداد السياح. وأضاف روبنسون لـ«الاقتصادية»، أنه "بعد أجواء التفاؤل التي انتابت القطاع السياحي بشأن إمكانية زيادة أعداد السياح هذا الصيف، ونتيجة الأوضاع المضطربة في مصر، والهجوم الإرهابي في تونس، فإن أغلب التوقعات أشارت إلى أن أفواج السياح ستتوجه إلى تركيا، لكن هذا لم يحدث نتيجة العنف الذي يحدث هناك". ويعتقد روبنسون أن مساهمة القطاع السياحي التركي ستتراجع خلال الفترة المقبلة، إذ إن الهجوم على السفارة الأمريكية يكشف أن موجة العنف ستتصاعد، ومع مقتل أول سائح حتى لو عن طريق الخطأ فإن عديدا من الأفواج السياحية الأوروبية والأمريكية ستلغي حجوزاتها لتركيا. وجهتا نظر مختلفتان نسبيا، ومع هذا يسعى الدكتور ود جايت فليتشر أستاذ الاقتصادات الناشئة في جامعة إدنبرا إلى تفسيرهما قائلاً، "إن وجهتي النظر تعكسان طبيعة الخلاف حول أشكال الاستثمارات الدولية في تركيا، فرجال الأعمال والمؤسسات المالية الدولية التي استثمرت في الهياكل الاقتصادية الثابتة كالمصانع أو البنية الأساسية، لن تنسحب سريعا مع أول هزة اقتصادية، فلا بد أن يتدهور الوضع الأمني بشكل ملحوظ، وأن ينعكس ذلك على مجمل الأوضاع، حتى تقوم تلك الاستثمارات بتصفية أعمالها، أما القطاعات الاقتصادية مثل السياحة أو القطاعات الخدمية، فإنها بطبيعتها لن تنتظر تدهور الوضع الأمني لتغير وجهتها، إذ ستبحث سريعا عن بدائل". ويستدرك فليتشر أن "الوضع الأمني محدد مهم للاستثمارات الدولية أيا كانت طبيعتها، لكن المشكلة الأكبر هي عدم قدرة تركيا على تشكيل الحكومة حتى الآن، فهذا مؤشر ربما يمثل مستوى أعلى من الخطورة بالنسبة إلى المستثمرين الدوليين مقارنة بمستوى العنف الراهن الذي لا يزال منخفضا نسبيا، فعدم تشكيل الحكومة يجعل الصورة ضبابية بالنسبة إلى رؤوس الأموال الأجنبية، والدعوة إلى انتخابات أخرى ربما تجعل الوضع أسوأ إذا لم تختلف النتيجة كثيرا، فعدم تشكيل حكومة يجعل المستثمر يطرح تساؤلات حول الاستقرار وطبيعة التغيرات المقبلة في القرارات الإدارية والتنظيمية المنظمة لعملية الاستثمار". ومع هذا فإن البعض يعتبر أن العنف الراهن في تركيا لم يكن أكثر من قشة قصمت ظهر البعير، وأن الأزمة الاقتصادية سبقت أعمال العنف، وأنها تأتي ضمن هزة عامة تتعرض لها الاقتصادات الناشئة. ويذكر البعض بالخلافات بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومحافظ البنك المركزي التي سبقت الانتخابات البرلمانية، وهيمنت على العناوين الأساسية لوسائل الإعلام، وتعلقت في جوهرها بارتفاع أسعار الفائدة في تركيا. وقد تراجع الوضع الاقتصادي بشدة العام الماضي، ويتوقع أن ينخفض معدل النمو هذا العام جراء عدم الاستقرار السياسي والأمني، فقد خسرت البورصة التركية نحو 20 في المائة من قيمتها منذ بداية العام حتى الآن. والليرة التركية رغم تماسكها النسبي أمام أعمال العنف الراهنة، فإنها شهدت تراجعا ملحوظا في قيمتها، فيما تراجع القطاع السياحي بنحو 9 في المائة خلال الأشهر الستة الأولى من العام الراهن مقارنة بنفس الفترة في 2014، والأكثر خطورة وضع الصادرات التركية. ريتشارد هارت نائب الرئيس التنفيذي للمؤسسة الدولية للاستثمارات يعتبر أن أخطر ما يواجه النموذج التنموي التركي هو تراجع الصادرات. ويضيف هارت لـ "الاقتصادية"، أن "الصادرات التركية انخفضت بنسبة 0.8 في المائة خلال النصف الأول من العام الجاري، مقارنة بذات الفترة من العام الماضي، ومن ثم فإن إجمالي قيمة الصادرات بلغ 73.3 مليار دولار مقارنة بـ 80 مليارا العام الماضي". وأشار هارت إلى أن هذا التراجع يعود في جزء منه إلى فقدان تركيا بعضا من مميزاتها التنافسية جراء ارتفاع أجور العمالة، لكنه أيضا يحدث في وقت تنخفض فيه أسعار النفط ومن ثم يجب أن تنخفض تكلفة الإنتاج، فإذا ارتفعت أسعار النفط مستقبلا فإن وضع الصادرات التركية سيكون أسوأ. وأوضح أنه إذا دخلت تركيا دوامة العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، في الوقت الذي يتفاقم فيه العنف الداخلي وتواكب ذلك مع عدم استقرار سياسي، فإن أنقرة ستواجه وضعا اقتصاديا شديد الخطورة. وتشير تقديرات البنك المركزي التركي إلى أن الاستثمارات الأجنبية تراجعت بنحو 1.7 مليار دولار منذ الانتخابات البرلمانية، ويرجع البنك ذلك إلى خشية رجال الأعمال والمستثمرين الدوليين من عدم إكمال أنقرة برنامج الإصلاح الهيكلي المطلوب لإحياء معدلات النمو. وانخفضت التكهنات الرسمية الشهر الماضي - وقبل موجة العنف - بشأن النمو المتوقع العام الجاري من 3.1 إلى 3 في المائة، إلا أن الاقتصاديين والمختصين غير الحكوميين يؤكدون أن النمو خلال هذا العام سيراوح في أفضل تقدير بين 2- 2.5 في المائة، مقابل معدل حكومي مستهدف 4 في المائة، في الوقت الذي خفض فيه البنك الدولي توقعاته أيضا بشأن النمو التركي عامي 2016 و2017. ولكن كيف ستنعكس تلك التطورات على الاستثمارات العربية في الأسوق التركية؟ يشير تقرير مديرية السياحة والثقافة في إسطنبول إلى أن عدد السائحين العرب في تركيا بلغ خلال الأشهر السبعة الأولى من هذا العام 1.3 مليون سائح، وزار إسطنبول سبعة ملايين سائح 20 في المائة منهم عرب أي ضعف عددهم عام 2010 عندما مثلوا 10 في المائة فقط من زوار المدينة، والسعوديون كانوا في المقدمة حيث توافد ما يقارب 255 ألف سعودي على إسطنبول، يليهم نحو 199 ألف عراقي. ووفقا للتقرير فإن العرب لعبوا دورا كبيرا في ازدهار سوق العقارات نتيجة الشراء من أجل التأجير وهو أحد أشكال الاستثمار العقاري المزدهرة في إسطنبول خلال العامين الماضيين. مالك الحسن المحلل الاقتصادي اللبناني، يؤكد أن الاستثمارات العربية لن تغادر الأسواق التركية، وإذا ما اتخذ قرار بالمغادرة فستكون آخر المغادرين. وأشار الحسن لـ "الاقتصادية"، إلى أنه بالنسبة إلى القطاع السياحي فيتوقع أن العرب سيواصلون التدفق على تركيا وتحديدا إسطنبول، أما بالنسبة للاستثمارات المباشرة، فإن بلدان مجلس التعاون الخليجي تحتل المرتبة الثانية بعد أوروبا، ثم أمريكا الشمالية، ورغم تراجع الاستثمارات الأجنبية في تركيا العام الماضي مقارنة بعام 2011، فإن الاستثمارات الخليجية كانت الأقل تراجعا. وكان وزير الاقتصاد التركي قد صرح في نيسان (أبريل) الماضي بأن حجم التبادل التجاري بين العالم العربي وبلاده بلغ عام 2014 ما يوازي 53 مليار دولار أمريكي. وبحسب الوزير التركي فإن أنقرة تستهدف تحقيق معدل تبادل تجاري خلال الربع الأول من عام 2017 يصل إلى نحو 70 مليار دولار، وقد بلغت الاستثمارات العربية المباشرة (وأغلبها من بلدان مجلس التعاون الخليجي) 11.1 مليار دولار أمريكي في العام الماضي. ومع هذا فإن الدكتور بارنت مار أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة ليدز يدعو إلى التفرقة بين ثلاثة جوانب في العلاقات التجارية العربية مع تركيا. وقال بارنت مار لـ "الاقتصادية"، "إنه بالنسبة إلى القطاع السياحي فإن العرب سيواصلون تدفقهم على تركيا، ولا أتوقع أن تؤدي حالة الاضطراب السياسي أو الأمني إلى التأثير في معدلات التوافد السياحي العربي على إسطنبول إلا إذا اتسع نطاق التدهور الأمني، وبالنسبة إلى التبادل التجاري فهذا لن يتأثر كثيرا أيضا، بل أعتقد أن الصادرات التركية لمنطقة الخليج قد تزدهر خلال الفترة المقبلة، لأن الأسواق الأوروبية وأسواق أمريكا الشمالية أكثر انغلاقا أمام الصادرات التركية مقارنة بالبلدان الخليجية، وقد قفزت الصادرات التركية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من 12 في المائة عام 2002 إلى 26 في المائة الآن. والمشكلة ربما تكون في الاستثمارات الأجنبية، وغالبا ما يؤثر القرار السياسي فيها، فالدوحة تكثف استثماراتها في تركيا نتيجة التحالف الاستراتيجي بين البلدين، بينما جمدت الإمارات أو صفت أغلب استثماراتها، وبالنسبة إلى السعودية فإنها تسعى إلى تحقيق التوازن بين السياسة والاقتصاد".