في ظل هيمنة "ثقافة الصورة" والعزوف القرائي المخجل، يخالج المرء- أحياناً – شعورٌ بالوهن والعطب النفسي الذي قد يقودك لمغائر الضجر واللاجدوى. إذ كيف يمكن أن نتقبّل أفول نجم الكلمة والكتاب اللذان رافقا الإنسان المسكون بأسئلته الوجودية، وأحلامه وهزائمه وانتصاراته وكل خلجاته؟ هل يمكن تصوّر حالة الخواء بعد أن تهيمن الصورة ببريقها وإبهارها على المشهد الحياتي؟ هل من المسوّغ التصالح مع هكذا فقر معرفي وذوقي حتى أو جمالي؟ هل بالفعل يمكن أن تعلن الكلمة عجزها عن الصمود أمام انقضاض الإعلام المرئي مثلاً؟ أتصوّر أنها مبالغة مفرطة في تشاؤمها وموغلة في سوداويتها إن استسلمنا لها، إذ تبقى الكلمة تلك الساحرة الفاتنة التي تزداد فتنة مع التقدّم في العمر وسيظل لها أثرها وعمقها اللذين لا يتضعضعان تحت أي ظرف، وكذا الكتاب يبقى له سحره ووهجه ودوره التنوير والثقافي الذي لا يعوّضه مشهد أو صورة أياً كانت تأتلق اغراءً وجاذبية. ولعلي هنا أورد تعليق جميل للروائي الإسباني كاميليو خوسيه ثيلا الحائز على نوبل للآداب عام 1989م حيث يقول: "أنا لست على يقين بأن الثقافة المعاصرة "تسودها" الصُّور. كما لا أؤمن بأن للتلفزيون تأثيره الإفسادي أو التسخيفي على الناس، أو أن صورة واحدة تساوي آلاف الكلمات المكتوبة. إنني أؤمن بأن أي شيء قادر على إثارة الاهتمام بالثقافة هو شيء يستحق العناية، وأن اهتماماً كهذا يمكن إثارته عبر التلفزيون. ويواصل كاميليو خوسيه رأيه وتعليق النابه قائلاً: "الكتابة سوف تُبقي على التلفزيون، تماماً مثل عدم ورود أمر القضاء عليها بالإدراك الحسّي الملموس، ذلك لأن المعاني المُثارة مختلفة. أنا أعتقد بأن معنى واحداً ينبغي أن يطغى على المعاني الأخرى. الأمر المهم هو أن تعمل المعاني معاً". إذاً لا طغيان لوسيلة على أخرى، وستبقى الكلمات وفقاً للكاتب والشاعر يهودا عمخاي الذي تماهى مع هذه الرؤية حين تحدث عن الشعر وأثر كلماته ومعانيه في تعزيز الجانب الجمالي والإنساني لدى البشر فيقول:"أعتقد بأن الشعر جزءٌ من مُداواة الجنس البشري مثله في هذا مثل سائر الفنون. ويضيف: لقد ساعدني شِعري على التغلّب في حالة مواجهتي لحياة الرُّشد والبلوغ. فبين سِنِّ الثامنة عشرة والخامسة والعشرين وجدتني داخل حربين؛ الحرب العالمية الثانية وحرب إسرائيل من اجل الاستقلال. ولقد استغرقني وقتٌ لكي أتغلّب على هذا، وحتى اتبيّن ما معنى أن أبدأ حياة بلوغي في خضمّ حرب. لقد احتجتُ إلى كلماتي لأحقّقَ سلاماً مع نفسي. إذاً نخلص من هذا إلى أن الرهان الحقيقي على الكلمة، فالكلمة كانت ولا زالت الخيار الأجمل والأقدر لدى فئام المثقفين والمفكرين لغور تاثيرها رغم عدم اغفالنا لأهمية الصورة وقدرتها على الاستحواذ لانتباه المتلقّين وكذلك قدرتها على الرواج في المتن الإعلامي، شريطة أن نرتقي بأدواتها وأن ننهض بمفرداتها. يجب على المثقفين والمفكرين وكذا الكُتّاب أن يسهموا بفاعليّة في إحداث مواءمة حقيقية ظاهرة في المشهد الثقافي ليكون مُجارياً للمتغيرات الحضارية الجارفة وأن نعزّز اهتمامنا بالكلمة لتكون خليقة بدروها المنوط بها، حاملة للفكر وناقلة لشتّى الأنساق المعرفية الإنسانية. ختاماً لِحتَفِ جميعاً بالكلمة لنحقّقَ سلامنا مع أنفسنا، فهل نحن فاعلون؟