×
محافظة المنطقة الشرقية

رئيس الوزراء العراقي يلغي مناصب نواب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء

صورة الخبر

قصيدة الشاعر أحمد الملا حياة موغلة في الذاكرة، ذاكرة من الغواية المتمردة والرغبة المترددة، تنتفض في أعماقه كسمك سلمون، يلح بإصرار غريب للعودة إلى النبع الأول، مدركا أن العودة تعاكس المنطق وضرب من اللا معقول وموعد أخير مع الشرك النبيل والقاتل. في عمق الارتياب يدون الشاعر ملحمته الأخيرة، بينما سم المكيدة يجري في دمه كلمات تلو الكلمات وضد الكلمات والتيارات. لكن من أين تأتي الشاعر هذه القوة لمواصلة الكلام وتكسير المرايا وسبر الذكرى؟ يقول الشاعر عن هذه الحياة التي اختارها دون سواها: (تلك حياتي في أعالى المياه، أغواني طعمها، حرنت، وبسنارة صدئة شقت لهاتي، حتى طلعت معلقا، أنتفض، منزوع الهواء). يبحث الشاعر عن استعادة منابع الطفولة، التي يجدها تارة نبعا للحياة، وتارة أخرى سما قاتلا. لكن بين هذا وذاك يتوق الشاعر إلى استرجاع مقومات تكوينه من الواقع حينما يقع في الوجدان ظل أو أثر، ومن الخيال حينما يستشف عوالم متسترة أو يشف عن خبايا أحلام وهواجس واستيهامات مدهشة. للطفولة في ديوان الشاعر حصة باذخة في شعر أحمد الملا، فهي العلامة الفارقة التي جعلت من الشاعر شاعرا، ومن الإنسان العادي كائنا مختلفا. يقول الشاعر: (الطفل الذي يعرف الظلام بأنامله ولا يجيد لغة ناقصة يصرخ، يشهق، يغوص ويدور رافعا جسده برجل واحدة أو يكاد. الطفل لم يعد يمشي خببا، يهتز، يضطرب، يجيش، يتخلع، يتفكك ويحلق في هواء مشبع بطبول تدق منذ الأزل). لمسته الذكرى. يفكك الشاعر عناصر طفولته عنصرا عنصرا، فيبدأ بالأب في قصيدة «حراس النوم» التي تجسد مكونين أساسيين في قصيدة أحمد الملا: الاستناد إلى الصورة والاسترسال في السرد. هذان المكونان يلتئمان ببراعة وينسجمان بعذوبة في كذا موضع من الديوان: (ألمحه جالسا في صحن البيت غارسا كوعيه في فخذين تحرث كعبهما الأرض رأسه بين كفيه وعيناه مصوبتان إلى نقطة لا تجف من الخوف الغرف تغط في سبات يوشك أن ينفض والليل يكاد ينجلي). (حجر رشق طفولتي وشق النهر، أهملته في جيب معطف نسيه الشتاء وبأصابع هرمة لمسته الذكرى). إن جمالية القصيدة تبنى على جماليات استعادة عناصر الطفولة، فما أن يلمسها الحنين حتى تتحول إلى عوالم قائمة بذاتها ودلالاتها. التفاصيل الصغيرة تنقلب إلى مكونات بلاغية وأسلوبية. تتساوق منظومة متآلفة أو محمومة متنافرة. وكأن الذكرى يتنازعها المحو والنسيان وتسعى إلى لملمة ما تبقى من الطفولة أو أنها تتلقى سيلا من الصور الهاربة وتخشى انفلاتها الأبدي صوب التلاشي والضياع. ولعل قصيدة «علاماتي الفارقة» تجسد هذه الاستعادة الجمالية بقوة، إذ تتجلى ذات الشاعر وتستغور عوالم الطفولة، كما لو أنها تستكشف قارة جديدة. يقول الشاعر: وجهي ليس لي، هذا ليس جسدي، هذا قناع، انظر جيدا، انظر، كل علامات فارقات. يبدو الالتباس ملمحا أساسيا في قصيدة أحمد الملا. فهو يتغذى على الريبة والشك واللاطمأنينة التي تبرز في الموضوعات المطروقة، وتظهر في الطفولة الغامضة وغير العادية وفي الندم والجنون والخيانة والحقد والذعر والحرب والأعداء.. وتتجلى أيضا في الحساسية المفرطة التي يحسها الشاعر جاعلة العالم المادي والروحي يتداعى بين يديه كعلامات فارقة، لكنها غير مرئية لكونها استعادات من زمن متلاش ومتداع إلى زمن الخسارات، حيث لا اعتراف بالنبوغ ولا قيمة للجمال. نجح الشاعر أحمد الملا في إضافة علامة فارقة إلى المشهد الشعري السعودي والعربي. علامة ترسخت بعد معمار شعري متميز بدأ بديوان «ظل يتقصف» (1995)، و«خفيف ومائل كنسيان» (1997)، و«سهم يهمس باسمي» (2005)، و«تمارين الوحش» (2010)، و«كتبنا البنات» (2013)، و«الهواء طويل وقصيرة هي الأرض» (2014). ثم «علامة فارقة» الصادر عن دار مسعى 2015.