×
محافظة المنطقة الشرقية

حمد الكعبي عاشق التصوير الإنساني

صورة الخبر

من فواجع الوضع الحياتي العربي المتردّي عدم إيلاء الاهتمام الكافي بمواضيع العلم والتقانة، سواء من قبل الحكومات أو من قبل المجتمعات. ولا يحتاج الإنسان للتذكير بأن بناء وتطوير وإغناء مكوّنات وأدوات هذا الموضوع تعتبر في عصرنا الحالي من أهم المداخل للتقدم، وعلى الأخص في حقول الصناعة والزراعة والبيئة والغذاء والصحة والتواصل والأمن الوطني. وبالتالي ما عاد من الممكن الحديث عن الأمن الشامل لأية أمة من دون العلم وقوى العلم والتقانة. نحن هنا نتحدث عن بناء القدرات العلمية والتقانية العربية الذاتية وليس عن استعمال العلم والتقانة التي ينتجها الآخرون، وذلك من خلال الاكتفاء بشرائها أو استئجار من يجيدون نقل تطبيقاتها إلى الواقع العربي. لعل أبرز ما يشير إلى عدم اهتمامنا ببناء القدرات العربية الذاتية ما كتب عنه الكثيرون مراراً وتكراراً، ونعني به موضوع البحوث ومراكز البحوث وما يصرف على البحوث في كل بلاد العرب. فهناك دراسات إحصائية كثيرة تقارن بين ناتج مجموع البلدان العربية المترامية من البحوث العلمية المنشورة، وبين ناتج بلد مثل كوريا الجنوبية الصغيرة أو الكيان الصهيوني الأصغر، أو البلدان الأوروبية الصغيرة الحجم، إذ تظهر تلك المقارنة فوارق كبيرة بين قلّة، أو ضعف الناتج العربي، وبين وفرة وقوة الناتج عند الآخرين. وبالطبع فإن أحد أسباب تلك الفوارق هو ضعف نسبة ما تخصّصه بلاد العرب للصرف على البحث العلمي من ناتجها المحلي مقارنة بنسبة ما تخصّصه البلدان الأخرى من ناتجها المحلي. فالبلاد العربية مجتمعة تخصّص أقل من عُشر ما يخصّصه مثلاً الكيان الصهيوني للبحث العلمي. ومع الأسف، فإن دوائر الحكم العربية لا تدرك بعمق أن ذلك يفسّر إلى حدّ بعيد القدرات العسكرية والصناعية الصهيونية الهائلة، وليس، كما تعتقد، المساعدات الأمريكية المقدمة بكرم إلى الكيان الصهيوني. إضافة إلى ذلك الوضع الكارثي للبحث العلمي هناك جوانب نقص كثيرة في التعامل العربي مع العلم والتقانة. فحتى نتائج البحوث المحدودة والعلماء الذين ينتجونها والمراكز البحثية التي تجرى البحوث فيها، لا يُستفاد منها بشكل كاف في تطوير الصناعات والخدمات، والمشكلات البيئية والزراعية العربية، وعندما توجد مشكلة في هذه الحقول فإن أول ما تفعله الحكومات العربية هو الاستعانة بقدرات الخارج بدلاً من الاستعانة أولاً بالقدرات المحليّة من أجل أن تقوى وتتطوّر وتراكم الخبرة. ومع الأسف، فإن البلدان العربية لم تعط اهتماماً كافياً لتجارب بلدان من مثل كوريا وماليزيا والهند وتايوان، في دمج العلم والتقانة المحلية لإنماء اقتصاداتها، ما أسهم في رفع قدرات الجانبين: العلم والتقانة من جهة، والاقتصاد من جهة ثانية. إن ما يحز في النفس أن المئات من المليارات قد جرى تخصيصها للتصنيع في بلاد العرب، لكن معظمها قد نفّذ بقدرات وعمالة الخارج، وبالتالي لم تساهم في بناء القدرات العلمية والتقانية العربية، ولا في تطوير ما هو موجود منها. ولعل ما يجعل كل بلد عربي يتجه إلى الخارج الضّعف المحزن للتعاون العربي المشترك في حقل العلم والتقانة، فكم هي قليلة المشروعات المشتركة، وكم هي قليلة المؤسسات والجمعيات واللقاءات العلمية المشتركة، وكم هو قليل التواصل والتعاون والتفاعل بين علماء العرب. ويبرز الضعف في الرغبة في التنمية العربية العلمية الذاتية حتى في حقل التثقيف العلمي من خلال وسائل الإعلام العربية. فمؤسسات الإعلام العربي تشتري وتبث البرامج العلمية التي أنتجها الآخرون للتعامل مع بيئاتهم وحاجاتهم، والتي في الكثير من الأحيان لا صلة لها بواقع ومحيط الإنسان العربي، بدلاً من الطلب من جهات علمية أو بحثية عربية إنتاج برامج علمية تثقيفية تربط الإنسان العربي ببيئته وقضاياه المعيشية، وتحسّن وعيه العلمي لحلّ قضاياه الحياتية، وفي الوقت نفسه لربطه بالتطورات العلمية والتقنية في العالم. ويشعر الإنسان بالإحباط وهو يرى العلماء المبدعين غير العرب وهم يتصدرون شاشات التلفزة العربية بينما ينزوي العلماء المبدعون العرب وراء ظلال التهميش والتجاهل. وحتى الآن، لم ندرك بعد أن بناء وتطوير حقل العلوم والتقانات هو موضوع لا يحتاج إلى المال فقط، ولا إلى حكومات تحتضنه فقط، وإنما يحتاج أيضاً إلى بيئة مجتمعية تحتضنه وتتفاعل مع علمائه، بما فيها وجود مؤسسات مجتمعية تناضل ليل نهار لتركيز الجهود وللاستثمار الكبير في حقلي العلم والتقانة. وأخيراً، هناك الدور الهائل الذي يمكن أن تلعبه المدرسة والجامعة في عملية البناء والاحتضان تلك. وهو موضوع واسع ومتشعب يحتاج إلى مجلّدات لإبراز تفاصيل أدوراه المتعددة. تقدم في السياسة والاقتصاد والأمن والتجديد الحضاري لا يقوم على رافعة العلم والتقانة هو تقدم مؤقت وفي خطر الانهيار، إن لم يكن حديث خرافة.