لم يكن توم فلتشر سفيراً عادياً لبريطانيا في لبنان، فمهّمته الديبلوماسية في بيروت على مدى أربع سنوات كرّسته «سفيراً فوق العادة»، غالباً ما بادر، و«بلا قفازات»، ملامساً قضايا إنسانية واجتماعية تعبّر عن سوء حال «بلاد الأرز» التي سار في «حقل ألغامها» السياسي والطائفي والمذهبي بعدما أدرك سرّ «الجوهرة المجنونة» التي وقع في حبّها من «النظرة الاولى» وعاش فيها ومع شعبها «مغامرة حياته» كما وصفها. وكما حضوره «الصاخب»، كذلك يأتي وداعه للبنان الذي لم يتوان عن جعله «القضية» التي حملها في الأيام الأخيرة من مهمّته في بيروت، سواء بـ «رحلة الوداع» التي قام بها على مدى ثلاثة ايام سيراً على الأقدام من البترون في الشمال الى بيروت، مروراً بجبيل وجونية والضبية، متجولاً في الأزقة الضيقة وفي المعالم الاثرية والدينية تحت شعار United for one lebanon، او بـ «رسالة الوداع» التي ضمّنها خلاصات تجربته الفريدة في لبنان الذي منحه فرصة مشاهدة «شروق الشمس من البقاع وغروبها من الأرز»، وختمها مضيئاً «شمعة أمل» ببلدٍ «أتيتُ اليه سفيراً لبريطانيا، وأغادره سفيراً للبنان في كل العالم». وفلتشر، الذي يترك للبنانيين رسالة الأمل بـ «يوتوبيا بيروت» و«لبنان 2020»، يتحضّر لحزم حقائبه والبدء بمهمة جديدة ربما لن تحمل له المراحل الثمانية في حياة السفير بلبنان «وقد عشتُها بالتزامن هنا، وهي الغواية، الإحباط، الابتهاج، الإرهاق، السخط، الافتتان، الإدمان، والاستسلام، وما كنت لأبدل مكاني هذا بأي مكان في العالم». وهذا الديبلوماسي الشاب والحيوي الذي اعتقد انه «صغير جداً على مهمة في لبنان الصعب لأكتشف انني عجوز جداً»، وضع في رسالة So…Yalla، Bye التي صارت «حديث» الوسط السياسي والإعلام اللبناني الإصبع على الوجع اللبناني معبّراً عن إدراك عميق لـ «فكرة لبنان» التي دعا اللبنانيين الى «ان يقاتلوا من اجلها لا ان يتقاتلوا حولها». ورغم وصْفه بعض السياسيين في لبنان بـ «الاوليغارشيين»، الا ان فلتشر أكد ان لبنان الذي سيذكره «لا يطلب المساعدة بل الاوكسيجين، لا يختلف اهله حول الماضي بل يتجادلون حول المستقبل، لا يلوم العالم بل ينخرط فيه»، مستعيناً بعبارة جبران خليل جبران «لكم لبنانكم ولي لبناني» ليقول انه «حين التهب الشرق الأوسط، وعلق الناس بين الطغاة والارهابيين، لبنان الباقي في ذاكرتي هو مَن أرسل جنوده إلى الحدود، وواجه إحباطات يومية ليحافظ على الأعمال وليتعلم الأطفال، وأظهر كرم ضيافة مميزاً تجاه القادمين إليه، أكانوا سفراء أو لاجئين». وبعدما رفض اعتبار لبنان «مقبرة للمثالية»، أعرب عن اقتناعه بان اللبنانيين قادرون على «تحدي التاريخ والجغرافيا وحتى السياسة وبناء البلد الذي يستحقونه والانتقال من استيراد الأزمات الى تصدير الحلول»، معبّراً عن خشيته من انه اذا سقطت رسالة التسامح والتنوع في لبنان «فسنخسرها في كل مكان». ولم تمرّ رسالة فلتشر من دون «سخرية هادفة» مرّرها على طريقته اذ قال: «رصاص وبوتوكس، ديكتاتوريون وديفا، أمراء حرب وواسطة، ماكيافيلي والمافيا،»غايم أوف ثرونز«مع»آر بي جي«حقوق الانسان وحقوق الحمص، أربع سباقات ماراتون، 100 تدوينة، 10 آلاف تغريدة، 59 لقاء مع رئيس الحكومة، أكثر من 600 عشاء، 52 خطاب تخريج، حفلان لمبادرة»وان ليبانون«تبادل وظيفي مع الخادمة، مسير على طول الساحل اللبناني، طيران فوق حدود لبنان الشمالية لأراقب كيف يحمي الجيش اللبناني السيادة اللبنانية، حتى أنني تلقيت دعوة لعملية شد الردفين، لكن هذه الهدية تتجاوز سقف 140 جنيها المقبولة كهدية، فاضطررت إلى رفضها». وبعدما اعتبر انه حان وقت الازدهار في لبنان وليس مجرّد «البقاء على قيد الحياة»، ختم واصفاً هذا البلد بانه «جوهرة مجنونة» دعاها الى ان «تشعّ»، ولافتاً الى ان «كل ما حاولتُ فعله خلال مهمتي كان ان أمسك المرآة وأحاول إظهار كم ان هذا البلد جميل». وشكّلت هذه الرسالة المؤثرة محوراً في التكريم الذي أقامه الزعيم الدرزي النائب وليد جنبلاط للسفير البريطاني متوجهاً اليه: «أتمنى لك الأفضل في عملك الجديد، آملا أن آراكم مجدداً في مكان ما، وفي وقت ما، وأذكركم بأن نورا وآل جنبلاط سيرحبون بكم دائماً، وحين ترغبون هنا في المختارة».