يبدو أن ثمة إشكال بين المثقف والسياسي في أصل الخلقة. وهو إشكال مترسخ عبر التاريخ، ولا يحده مكان أو زمان. ففي الوقت الذي لا يعلن فيه السياسي إلا ما يجب إعلانه، لا يسكت المثقف إلا عن ما يجب السكوت عنه. وهذا في حق السياسي والمثقف الواعيان والمعتدلان أيضا. لأن السياسي الأحمق والمثقف الأحمق يأتيان بالعجائب نتيجة نشوزهما عن أصل الخلقة. المثقف إنسان مفعم بالمعنى الراهن، بعبر عنه بقوة ويشرحه ويحلله ويفسره باستفاضة، ويطرح كل خيارات المآلات بشفافية عالية جدا، ويكاد يصرخ ليقسم أنه يؤمن جدا بما يقوله. أيا كان التيار الفكري والمدرسة الثقافية اللذين يحركانه. أما السياسي فعينه على المآلات أكثر، ولذلك يقدم خيارات المستقبل دائما على الأمر الراهن. ومن هنا، يمكن فهم القدر الكبير من التضليل الذي تركن إليه الدوائر السياسية حول العالم، وخوفها العميق من كشف سياقاتها الراهنة بشكل عام، وركونها للتستر على جل ما تراه وتتخذه من مواقف، واستعاضتها بإعلان أي شيء آخر سوى الحقيقة الراهنة. هذه المقدمة المشكلة مهمة في فهم ما يفعله الغرب وتفعله إيران من أجل مآلات الأحداث في منطقتنا. ولذلك عندما يحلل كل من كيسنجر وشولتز الموقف الراهن، في ورقة قدماها مؤخرا، فهما يبدآن تحليلهما كمثقفين حاليا، لكن مصل السياسة لا زال في الطحال، فسرعان ما تختلط عندهما الوظيفتان. ومن هنا يمكن فهم الخلط الكبير الذي وقعا فيه عند تقييمهما لخطر إيران على إسرائيل، بعد أن تم تحجيم الخطرين العراقي والسوري، في نظرهما. اظطرب العملاقان، عندما أرادا تحليل التهديد الإيراني (الراهن) لإسرائيل، بالقدر الذى يعبران فيه عن مآلات سياسية مجدولة بين الغرب وإيران. فلم يكن الثقافي هنا في وئام مع السياسي.. وظهر الارتباك في الرؤية وفي التعبير عنها. وهو ليس ارتباك ضعف بالتأكيد فلكلاهما من القوة ما تنوء به العصبة من الرجال، لكن النفس الثقافي الضيق لديهما المعني بمناقشة الراهن وفهمه وإعلانه، ناء بحمل الجبروت السياسي المكين لديهما المعني بالمآلات، والمتستر وراء التضليل. وهنا تقدمت السياسة بقوة فقمعت الثقافة وتم التصريح في رؤيتهما بأن إيران لم تستطع وحسب خلال السنوات الماضية من تهديد إسرائيل. طبعا العملاقان يريدان منا قبول هذه الفربة التحليلية الراهنة، وأيضا عدم التفكير في ما وراء ذلك من رؤية لمآلات الأحداث في المنطقة، والعقد الأزلي المتجدد بين الغرب وإيران. يبدو أن تربع إيران على طرف العرش الأمريكي في المنطقة كحليف إستراتيجي قد أصبح أمرا راهنا. أما المآلات فهي في ما بعد تربع الإيرانيون هذا. دورنا إذا، عوضا عن تباكي ما فقدناه، وقد فقدناه بالفعل، أن نتقن ثقافيا دراسة وفهم الأمر الراهن، وأن نكشف بكل شفافية فكرية وثقافية كل المآلات الممكنة، وكيف يمكننا أن نكون خلالها أفضل. أما سياسيا فبذات الهاجس التحليلي، تبرز أمامي مجموعة من التساؤلات، المهمة جدا والعميقة جدا في سياقاتها السياسية مثلا: هل يمكن أن تكون الجزر الثلاث.. في رسم العلاقة المعلنة بين الإمارات وإيران، لعقود مضت، هي ذاتها الشعار المعلن بين إيران من جانب، وإسرائيل وأمريكا من جانب آخر، (الموت لإسرائيل. الموت لأمريكا)؟!!!! كيف يمكن الإجابة سباسيا عن هذا التساؤل.. وليس ثقافيا؟ الكثير من المواقف الراهنة في الخليج، تعد في نظري مآلات لما أعلن عنه قبل عقود في هذا الإطار كيف يمكن فهم تعقد المواقف الراهنة في الخليج وفي المنطقة، ونفس العداء العربي العربي المتفاقم في ظل تصريحات غربية سباسبة تصف السلوك الغربي بقاطرة الأمن والاستقرار. لمصلحة من، يتم تعزيز الاستقطاب الطائفي والعرقي في دولنا؟ وكيف يكون من بيننا من يسره ذلك ويؤججه؟ من هؤلاء الذين يفعلون ذلك من بيننا؟ عندما لم يكن لدينا إعلام مفسد (سياسيا)، جيء بالجزيرة بقضها وقضيضها ودعمت بقوة حتى حققت أهدافها، والآن لم يعد ثمة حاجة لبديل إعلامي سياسي للجزيرة بعد أفولها. أكاد أقسم، أن الذين استبدلوا القاعدة بداعش سياسبا، لحرب المآلات، لن يستبدلو الجزيرة بقناة أخرى سياسية، لحرب الراهن. لقد سقط الراهن، واضطرب. وبقيت منطقتنا حبلى بمآلات الأمور. فاللهم .. سلم