×
محافظة المنطقة الشرقية

بلدية الشارقة تخضع 5 مناطق لرسوم المواقف المدفوعة

صورة الخبر

تكلمنا الأسبوع الماضي... عما فعله نجيب محفوظ عندما كان جمال عبد الناصر على قيد الحياة. لكن السؤال الذي يطرحه بعض الخبثاء وما أكثرهم... - بعد رحيل عبد الناصر وخلال عقد السبعينيات ماذا كتب نجيب محفوظ عن يوليو وعبد الناصر. تنوعت الإجابات. لكن جوهرها واحد. عندما وصل نجيب محفوظ في روايته الكرنك إلى آخر مدى في انتقاد عبد الناصر.. لدرجة أن هذه الرواية أسست لما يمكن أن يسمى بالكرنكة. وكان اتجاها عاما وشاملا في انتقاد عبد الناصر لحساب زمن السادات. مع أن رواية الكرنك من روايات نجيب محفوظ القليلة التي حذف منها الكثير.. وما نشر كان بقايا الحذف. حدث هذا مع روايته أيضا: القاهرة الجديدة، والحب تحت المطر. أذكر أنني وجمال الغيطاني شهدنا معا ميلاد رواية: الكرنك. عندما سمح لنا نجيب محفوظ بالذهاب إلى مقهى عرابي بميدان عرابي بالظاهر. حيث كان يلتقي مع أصدقائه القدامى. الذين كانوا ينادونه بدون ألقاب. وفي أحد الأيام دخل المقهى شخص يبدو شديد الأهمية صمت الناس لحظة دخوله. وعندما سأل جمال الغيطاني عنه. قيل انه حمزة البسيوني. مدير السجن الحربي في زمن عبد الناصر. وبعد هذا اللقاء المباشر توفي حمزة البسيوني في حادث سيارة دموي في الطريق السريع مصر إسكندرية. أشهد أن نجيب محفوظ عندما كتب الكرنك. كان يستجمع ما سمعه من الذين يجلسون معه في مقهى ريش حول التعذيب في المعتقلات وما جرى لهم. لا أعرف إن كان نجيب محفوظ قد قرأ قصة يوسف إدريس: العسكري الأسود أم لا؟ عندما كتب روايته. وأيضا لم يكن أحد من المعتقلين قد خرج من المعتقل ودون مذكراته التي قرأنا فيها ما جرى لهم خلف الأسوار. وهو الاتجاه في الكتابة الذي بدأه فتحي عبد الفتاح بكتابه: شيوعيون وناصريون. من المؤكد أن نجيب محفوظ وفدي الهوى.. وإن كان لم ينتظم في أي حزب سياسي لا الوفد ولا غيره طوال حياته. وزعيم عمره هو سعد زغلول. والزعيم الذي أحبه بعد سعد زغلول كان مصطفي النحاس. الذي كان يرى أنه الشخصية المصرية مصفاة من أي عناصر دخلت عليها. لكن لديّ قصة عن علاقته بأسرة جمال عبد الناصر. فقد حدث أن طلب الدكتور مهندس خالد جمال عبد الناصر- يرحمه الله رحمة واسعة- زيارة نجيب محفوظ. حدث هذا في تسعينيات القرن الماضي. وعندما أتى إلينا حكي لنجيب محفوظ داخل بيت جمال عبد الناصر. قال إنه عندما كانت تصدر رواية جديدة لنجيب محفوظ. كان عبد الناصر يطلب من أبنائه قراءتها ويناقشهم فيها كلمة كلمة. وعندما كان يتم تحويل رواية إلى فيلم سينمائي كان يعرضه لهم ويمتحنهم فيه. وهو نفس الكلام الذي حكاه خالد جمال عبد الناصر لعبد الله السناوي بتفصيل أكثر. ونشره عبد الله على حلقات في جريدة العربي الناصري. ولكنه تكاسل عن جمعه في كتاب. يومها تأثر نجيب محفوظ كثيرا.. يخيل إليّ أن العلاقة الإنسانية التي نشأت بينه وبين خالد عبد الناصر.. ربما جعلته يعيد النظر بأثر رجعي في موقفه من عبد الناصر. - وليس من ثورة يوليو- وقد تجلي هذا في أمرين. الأول أنه عندما مرض خالد جمال عبد الناصر وسافر إلى لندن لإجراء جراحة دقيقة. كان نجيب محفوظ كثير السؤال عنه. وكان يطلب منا الاتصال تليفونيا بلندن من أجل الاطمئنان عليه. الأمر الثاني أنه عند زواج تحية ابنة خالد جمال عبد الناصر. من أحمد ابن الدكتور سمير فرج.. وجاءت تحية وأحمد بدعوة لنجيب محفوظ لحضور حفل زفافهما. ولأن نجيب محفوظ لا يسهر ولا يذهب إلى أفراح. فقد كلف زوجته السيدة عطية الله إبراهيم. بالذهاب إلى الحفل. وقبل ذهابها توجه بنفسه إلى سيدنا الحسين واشترى صينية من النحاس هدية منه للعروسين. وقد فوجئت ليلة العرس بزوجة نجيب محفوظ تجلس على أحد المقاعد. فقلت لنفسي يخلق من الشبه أربعين، ولكن عندما صافحتني تأكدت أنها زوجة نجيب محفوظ. وأنه كلفها بالحضور وتقديم تحيته للعروسين. وفي الوقت نفسه كانت له آراء صادمة في إنجازات عبد الناصر. أذكر أنه قال عن تأميم قناة السويس: - على المستوى السياسي كان تأميم القناة خسارة فادحة لمصر، لأنه أدخلها في صدام مباشر مع القوى الكبرى. وكان الأفضل ألا نحاول استفزازها خاصة أن عظام الثورة كانت لاتزال لينة ولا تتحمل مثل هذا النوع من الصدام العنيف. وعلي المستوى الاقتصادي خسرت مصر، ذلك أن موعد عودة القناة لمصر كان يحل في عام 1968، ولو انتظرنا إلى هذا التاريخ ما اضطررنا إلى دفع تعويضات مالية، ولحصلنا على حقوقنا من دون الدخول في صدام عنيف مع الدول الاستعمارية، خسرنا من ورائه الكثير. أيضا فقد كتب نجيب محفوظ رثاء لعبد الناصر في الأهرام. أثار الكثير من الجدل. وقد حكي نجيب محفوظ قصة هذا الرثاء لرجاء النقاش في كتابه الحواري معه. قال: - في صباح اليوم التالي لوفاة عبد الناصر اتصل بي الأستاذ محمد حسنين هيكل بنفسه وطلب مني أن أكتب كلمة رثاء في عبد الناصر، وفي تلك الفترة كانت كتاباتي في جريدة الأهرام، لا تزيد على كتاباتي الأدبية. ولكني كتبت ما طلبه هيكل، وذهبت إلى «الأهرام» وسلمت الكلمة التي لم تكن رثاء خالصا. بقدر ما كانت ضمن بعض تلميحات في نقد عبد الناصر. كانت حالة التأثر عامة، وكان الحزن عظيما على الرجل بدليل الإقبال الكبير على التبرع للمشروع الذي اقترحه توفيق الحكيم بإقامة تمثال لعبد الناصر، وكنت أنا من أوائل المتبرعين. نشر الأهرام كلمة نجيب محفوظ في رثاء عبد الناصر يوم 2 أكتوبر 1970 أي بعد وفاة عبد الناصر بأربعة أيام، وكان عنوان هذا الرثاء: «كلمات من السماء»، وجاءت كلمة نجيب محفوظ على شكل حوار بين الكاتب وبين جمال عبد الناصر، وهذا هو نص الكلمة: - حياك الله يا أكرم زاهد. - حياكم الله وهداكم. - إني أحني رأسي حبا وإجلالا. - تحية متقبلة ولكن لا تنس ما سبق من قولي «ارفع رأسك يا أخي». - نحن من الحزن في ذهول شامل. - لا يحق الذهول لمن تحدق به الأخطار وتنتظره عظام الأمور. - يعزينا بعض الشيء أنك إلى جنة الخلد تمضي. - وسيسعدني أكثر أن تجعلوا من دنياكم جنة. - إن عشرات التماثيل لن تجعلك في خلود الذكرى. - لا تنسوا تمثالين أقمتهما بيدي وهمي «الميثاق» و«بيان 30 مارس». - وراءك فراغ لن يملأه فرد. - ولكن يملؤه الشعب الذي حررته. - سيبقى ذووك في صميم الأفئدة. - أبنائي هم الفلاحون والعمال والفقراء. - وجدت قرة عيني في توديع الكرة الأرضية لك. - أما قرة عيني ففي استقلال الوطن العربي والحل العادل لأرضه الشهيدة. - سيكون أحب الطرق إلى نفسي الطريق إلى مسجدك. - طريق الحق هو الطريق إلى العلم والاشتراكية. - نستودعك الله يا أكرم من ذهب كلنا ماضون ومصر هي الباقية. قال نجيب محفوظ بعد ذلك عن هذا الرثاء: - لقد انتقدني كثيرون ووجهوا إليّ اللوم عندما كتبت مقالا في جريدة الأهرام، أرثي فيه عبد الناصر يوم وفاته مع علمي بأخطائه. وأقول لهؤلاء إنكم لو أمعنتم قليلا في قراءة المقال، فستجدون أن نصفه انتقادات لعصر عبد الناصر ومعارضة لحكمه، ثم إن للموت جلاله ورهبته، وعندما يذهب إنسان للعزاء في ميت لا بد أن يذكر محاسنه وينسى سيئاته، حتي يبرد الحزن على الأقل. فماذا ينتظر مني هؤلاء اللائمون؟ هل أقول للناس: «البقية في حياتكم.. يلعن أبوه؟!»... يا سادة لا تحاسبوا الكتاب والمفكرين على أي فعل أو قول صدر منهم في تلك الساعات العصيبة. لأن الموقف لم يكن يحتمل مثل هذا الحساب العسير. إن التداخلات في موقف نجيب محفوظ من ثورة يوليو ومن جمال عبد الناصر كثيرة. لكن علينا الآن بعد أن مضى الزمن وطويت الصفحة أن نحتكم للنصوص فقط.