غير قليلة هي الانتقادات التي يوجّهها مثقفون أكراد الى حزب الاتحاد الديموقراطي، بزعامة صالح مسلم. الانتقادات تُطوى غالباً إذا تعرّض الحزب نفسه لانتقادات من الضفة العربية، وحينها يُتّهم أصحابها بأنهم بعثيون أو داعشيون. ندرة من المثقفين الأكراد تحافظ على توازنها، وكذلك ندرة من المثقفين السوريين العرب تحافظ عليه، وسط الاصطفاف الحالي. باستخدام لغة الاتهام ذاتها، قد يجوز القول أن «البعث» أو «داعش» يتسربان من الشقوق أحياناً. المظلوميات القديمة والمستجدة ترجح استخدام لغة لا تعترف سوى بأوجاع أصحابها، فلا ترى الآخر إلا عدواً قديماً أو حالياً أو مستداماً. في حواره مع جريدة «الحياة»، الذي أجراه رئيس التحرير غسان شربل، يحاول صالح مسلم الابتعاد عن واقع الاصطفاف الحالي. لكن للقفز على الواقع ضريبته، بخاصة عندما يقدّم سردية مثالية تتغاضى عن الوقائع أحياناً، وتلوي عنقها أحياناً أخرى. لقد عرف السوريون، وغيرهم من شعوب المنطقة، سرديات شبيهة. البعث نفسه لم يكن سوى تلك الأدلوجة القومية «المشرقة» التي خبأت تحتها اضطهاداً للجميع، وأهم ما خبأته أنها لم تكن يوماً إلا مشروع سلطة واستبداد. إجابات من قبيل «نحن لدينا العقد الاجتماعي، أي نوع من الدستور بين المكونات، وهو متقدّم. بعض الدول الأوروبية قال أنه أكثر تقدماً من تشريعات معمول بها في بعض دول الاتحاد الأوروبي»، لا يُستبعد أن تُذكّر بمقولة الرسالة الخالدة للبعث، بخاصة عندما يُسترجع التاريخ في جزء آخر من الحوار، فيرى صاحبها الإمبراطوريات القديمة بوصفها عربية أو فارسية، باستثناء حكم الأيوبيين الذي لم يكن كردياً. فهنا يُقفز على تاريخ السلالات الإمبراطورية في المنطقة، ويُجرد الأمويون والعباسيون ليصبحوا محض عرب كما صوّرهم البعث، ويُقفز أيضاً عن حكم سلالات أخرى لم تكن عربية مثل البويهيين والسلاجقة. وأهم ما يُقفز عنه، وهو ما يستغلّه «داعش» وأشباهه، ألا يُقرأ ذلك التاريخ بوصفه حقبة إمبراطورية إسلامية انقضى عهدها كشأن العهود الإمبراطورية جميعاً، وألاّ ميزة لأحد يمكن تحصيلها منه اليوم. من حق صالح مسلم، كقائد حزبي، الترويج لقناعاته وسلوك أتباعه، مثلما من حق الآخرين خلخلة تلك الصورة التي يقدّمها. على سبيل المثال، يُستنتج من حديثه الوردي عن الإدارة الذاتية، في المناطق ذات الغالبية الكردية في سورية، وجود مثال مشرق جداً على التعايش بين مكوناتها، إلا أن وقائع ثابتة على وجود معتقلين سياسيين أكراد في كانتونَي الجزيرة وعفرين لا بد أن تنتقص من تلك الصورة الزاهية، وأن تستبعد تمتّع المكونات الأخرى بها. بالمثل، لا يستقيم النفي المطلق لوجود أي تجاوز لقوات الحزب، على حساب السكان العرب، مع الحديث عن تصحيح مظالم التعريب، والتنويه بأن التعريب الذي قام به حكم البعث لم يقتصر على وضع أسماء عربية بدل الكردية، بل كان أهم جوانبه اقتصادياً يتعلّق بتوزيع الأراضي فترة ما سُمي الإصلاح الزراعي، ثم منح قسم منها للعرب الذين غُمرت أراضيهم مع إنشاء سد الفرات. في الواقع، كان هذا الجانب هو سبب الإحقان الأكبر، والاقتتال في العديد من الأحيان، بين ما يُسمى «عرب الغمر» والأكراد، وهو أيضاً سبب الاحتقان عندما رافق تحرير تل أبيض حديثٌ كردي عن تهجير قديم لأكرادها، وتزامن مع اتهامات تطهير عرقي لم تحقق فيها جهة حقوقية محايدة. سيكون مؤسفاً دائماً قسر الوقائع، بما في ذلك أصغرها، وسيكون مؤسفاً ألا يكون زعيم الحزب المهيمن مطلعاً على حيثيات أهم انتفاضة كردية سورية قريبة العهد. فهو يقدّم رواية مؤامراتية مكتملة الأركان، تبدأ بالإعلان عن مباراة بين فريق من القامشلي وآخر من دير الزور على أرض الأول، استغلّها المشجعون العرب «الصداميون» لشتم قيادات كردية في أرض الملعب، وتولى التلفزيون نقلها مساهمة في توتير الأجواء. مؤسف ألا يعرف مسلم أن المباراة كانت تجري ضمن جدول للدوري مقرر لجميع فرق الدرجة الأولى، وأن كاميرا التلفزيون كانت تتنقل ضمن الملاعب كافة التي تجرى فيها المباريات في التوقيت ذاته، وما حدث أن إدارة التلفزيون أوقفت البثّ نهائياً عن ملعب القامشلي عندما أدركت تجاوز ما يحدث فيه مظاهرَ شغب الملاعب المعتاد. ذلك كله لا ينفي وجود نية مبيّتة لدى النظام لترويع الأكراد، وإفهامهم ألا يستبشروا خيراً بالمكتسبات التي حصل عليها أكراد العراق. تعقيباً منه على قمع بشار الأسد الانتفاضة الكردية، يضيف مسلم: «أنا أعتقد أن الأسد تحدّى الأكراد لإرضاء الأتراك، وهذا فخّ وقع فيه»، ثم «نعم دفعنا ثمن الأخوة بين بشار وأردوغان». هنا، وطوال الحوار، يهيمن الشبح التركي بوصفه عدو أكراد سورية الأكبر، وكأن ممارسات نظام الأسد في حق الأكراد ليست نابعة من بنيته القمعية أصلاً! التعجب لن يزول مع نفي مسلم أن يكون النظام قد تنازل عن السيطرة على المناطق ذات الغالبية الكردية بلا قتال، ولا مع واقعة عدم تعرّضها لعمليات انتقام جوية على غرار المناطق الأخرى، بما فيها المناطق العربية الملاصقة للحدود التركية. التعجب يزول في ما لا تعلنه القيادة الكردية، وهو أن النظام تنازل عن تلك المناطق ضمن صفقة ينأى بموجبها الأكراد عن الحرب الدائرة في سورية، وكان من مندرجاتها أن يقمع حزب الاتحاد الديموقراطي التظاهرات المؤيدة للثورة في كوباني والجزيرة، وأن تطلق قواته الرصاص على المتظاهرين في مناسبات عدة في عامودا وكوباني. لكن أهم ما تدركه القيادة الكردية، ولا تعلنه، أن النظام في تخلّيه عن المناطق ذات الغالبية الكردية مطمئن إلى أن «عدوه» التركي لن يسمح بقيام كيان كردي فيها، ولن يكون عسيراً استرجاعها في ما لو قُيّض له البقاء. أن يعلن صالح مسلم أن الثورة الحقيقية حدثت في المناطق الكردية فقط، وأن ما تشهده المناطق الأخرى «صراع على السلطة»، وأن يعيب على مناطق مثل درعا وغيرها من تلك الواقعة تحت قصف قوات النظام، عدم بلورتها إدارة ذاتية، فهذا هو الانفصال الفعلي الذي ينفيه وهو يركز على إرسال تطمينات تخصّ نوايا انفصالية محتملة لدى أكراد سورية. النزوع إلى الاستقلال ليس عيباً أو نقيصة، وبالمقارنة قد يكون الاستقلال أفضل من الجدران اللامرئية السميكة التي تعززها شعارات لا تنسجم مع الوقائع، أليس هذا ما فعله البعث؟