تركت تلميحات رئيسة مجلس الاحتياط الفيدرالي جانيت يلين عن النية في رفع معدل الفائدة الامريكية ظلالها على الساحة الاقتصادية والمالية، ولم يستطع الذهب الابتعاد عن ما ينتج عن ذلك من تداعيات، بل كانت الأضواء مسلطة عليه بقوة وبدأت التكهنات بتراجع أسعاره، مما أصاب الهلع أسواقه. لم يترجل الذهب كعملة تقوم بوظائف النقود كوسيط للمبادلات ومقياس للحساب ومخزون للقيمة والإقراض وسداد الديون، إلا بإحلال العملة الورقية الإلزامية في القرن الثامن عشر، رغم احتفاظه بلعب دور الغطاء الحامي لتلك العملة الوليدة بجانب دوره كعملة الاحتياط الدولية. إلا ان الطفرات الانتاجية اللاحقة التي عرفها النمو الاقتصادي العالمي وتغلب القوة السياسية والعسكرية الأمريكية، أعطت الدولار مكانة هامة وقوة للدولار ليفرض نفسه دوليا، ويمثل غطاؤه الثقة وقدرة قيمته الشرائية، أي تقلص دور هذا المعدن وبهتت قدراته السابقة وأصبح كغيره من المعادن يحمل صفة السلع فقط ويخضع لقوانين السوق من عرض وطلب ولا يحمل في طياته ثباتا في قيمته. لا شك ان استخدام الولايات المتحدة الأمريكية سياسة التيسير الكمي لتجاوز الازمة الاقتصادية التي ضربتها عام 2008، جعلها تزيد من خلق الدولار وازداد حجم السيولة النقدية هدفا لدعم الطلب. وعادة تجر هذه السياسة وبصورة تلقائية إلى انخفاض معدل الفائدة وتؤدي إلى تقليص الفرص الاستثمارية البنكية وتزعزع أداء الأسهم. لذا ازداد التهافت على الذهب، الذي كان يتصوره الكثيرون ملاذا آمنا نتيجة ما يروج له كمخزن للقيمة في أوقات الصعوبات والأزمات الاقتصادية التي تكون فيها النقود الورقية لا قيمة لها نتيجة تفشي التضخم الفاحش. لقد افزعت هذه السياسة الكثيرين وسربت الخوف إلى النفوس من خطورة تضخم جامح وقادم، قد يقلص ويقضي على عملة العالم المتمثلة في الدولار. وساهم ذلك في التكالب على اقتناء الذهب وادى الى ارتفاع اسعاره بصورة متلاحقة حتى وصل إلى اكثر من 1900 دولار كسعر للأوقية. إلا أن الصورة جاءت بعد ذلك معكوسة حيث باشر منحى الأسعار الهبوط بصورة تدريجية ومستمرة حتى وصل إلى أدنى مستوياته خلال خمس سنوات ونصف وبلغ سعر الأوقية إلى ما دون 1100 دولار، ويتوقع محللو الأسواق ايضا تراجعا في سعره إلى 1000 دولار للأوقية في نهاية العام الحالي. وقد يكون وراء ذلك بعض من الأسباب المتداخلة ويتمثل أولها في بقاء مستويات التضخم منخفضة وقريبة من الصفر. وثانيها تدني اسعار النفط التي ساهمت في تخفيض تكاليف الطاقة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وبالتالي كرس ذلك المستوى المنخفض للتضخم وشجع بوادر الانتعاش الاقتصادي. ويعتبر هذا الوضع غير مجد ومغر تقليديا في اقتناء الذهب في مواجهة التضخم، بل يفضل في مثل هذه الحالات الاستدارة نحو الاستثمار في الدولار والسندات وغيرها من مجالات الاستثمار، وبكلمات أخرى يتم التخلص من الذهب في فترات الانتعاش الاقتصادي والتركيز على استثمار الأموال في قنوات اكثر عائدا واعلى ربحية خارج سوق الذهب. ويضاف إلى السببين السابقين، ارتفاع الاحتياطي الصيني من الذهب بصورة ملحوظة حيث ارتفع بنسبة 57 بالمائة عما كانت تقتنيه الصين قبل ست سنوات، وهو يمثل محددا هاما في تحديد أسعاره لأن الطلب الصيني على الذهب يبلغ نحو خمس الاستهلاك العالمي. وقد يستنتج من هذا الارتفاع، ان البنك المركزي الصيني لن يقوم بشراء كميات كبيرة في الوقت المنظور. إن الرهان على قرار مجلس الاحتياط الفيدرالي في رفع الفائدة، سيقود بصورة آلية إلى ارتفاع قيمة الدولار، ولن يخدم ذلك زيادة الطلب على الذهب، بل سيؤدي ذلك إلى تراجع أسعاره، أي لن يكون الذهب ملاذا آمنا للاستثمار، بل سيبقى الذهب في السنوات القادمة سلعة تجارية مرتبطا بحركة تقلبات قيمة عملة العالم الدولار الذي يحدد سعره.