في مقالات سابقة لي أثبتُ أثر العلوم والفلسفات العربية القديمة على النهضة في أوروبا. وقد فندت تلك الادعاءات التي تبخس العرب دورهم في الحضارة البشرية. اليوم، سأعالج موضوعا نقيضا: المبالغة في فهم تأثير العرب القدماء على النهضة الأوربية. فلا نعدم دائما أن نجد من يجعل العلم والفكر العربي القديم هو السبب الجوهري الوحيد لنهضة الغرب. وهذه مبالغة لا يدعمها التاريخ الفعلي للعلوم والأفكار. في البداية علينا أن نفهم ما معنى «النهضة الأوروبية» والفرق بينها وبين «أوروبا الحديثة». فعصر النهضة الأوروبي أو الرينسانس هو تلك الحقبة الزمنية الممتدة من القرن الرابع عشر حتى أواخر السادس عشر. وهذه النهضة بدورها كان لها مقدمة تاريخية في القرن الثالث عشر. وفي هذا القرن تحديدا بدأ الاتصال بين العرب والغرب يأخذ صورة أكثر عمقا. صحيح أن هناك اتصالات سابقة، لكن في هذا القرن وما تلاه انكب علماء العصر الأوروبي الوسيط على دراسة الفكر اليوناني والعربي. وقد تأثروا عربيا بالفيزياء والفلك والطب والفلسفة. وترجمت مؤلفات العرب سواء الشارحة أو المبدعة إلى اللغة اللاتينية التي هي اللغة الرسمية أو لغة العلم آنذاك. رافق تعرف الأوروبيين على الفكر اليوناني الأصلي والفكر العربي بروز وعي علمي جديد.. يغلب عليه الطابع العقلاني في الفلسفة والتجريبي في العلم. وقد أخذ العقل الأوروبي يتهيأ شيئا فشيئا لكي يتحرر من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على العلوم والأفكار. وحينما أقول إنهم بدأوا يتعرفون على الفكر اليوناني «الأصلي» فإني أريد الإشارة إلى أن هناك نسخة مشوهة عن التآليف اليونانية.. أي أن الكنيسة تدخلت في الفكر اليوناني وعبثت به لكي يتوافق مع تعاليمها اللاهوتية. في تلك الأثناء سقطت مدينة القسطنطينية بيد الأتراك العثمانيين مما دفع علماء الكنيسة الشرقية ذوي الأصول اليونانية إلى الهرب إلى روما حاملين معهم المخطوطات الفلسفية والعلمية اليونانية الأصيلة.. فانكب الإيطاليون عليها وتعرفوا على فكر جديد كانوا قد تلمسوا بوادره في المترجمات العربية. كان انهماك الإيطاليين على التراث الكلاسيكي «وهو هذه المخطوطات الإغريقية والرومانية القديمة» مرتكزا على الفن أولا وعلى العلم ثانيا. انتشر الوعي الجديد إلى بقية أنحاء أوروبا.. وهذا الوعي استمر قرنين من الزمان لكي يستولد وعيا أكثر نضجا وهو الوعي العلمي الجديد.. وهو وعي يقطع مع الإرث اليوناني وحتى مع الإرث العربي الذي تسلل إلى أوروبا الوسيطة. هذا الوعي الجديد هو أوروبا الحديثة التي تختلف عن أوروبا الوسيطة وأوروبا النهضوية. من هنا يمكن القول وببساطة إن الغرب الحديث لم يقطع فقط مع العصر المسيحي الوسيط بل مع العصر الإحيائي أو النهضوي الذي بالغ في تمجيد الإغريق وقدس علومهم تقديسا أضر بالعقول وأفسد ملكات الإبداع. فالعصر الحديث ثورة على التراث العلمي القديم: اليوناني والعربي والمسيحي. في الختام، علينا أن نكون أكثر حذرا في إطلاق الأحكام؛ فأثر العرب على الغرب كان مرحليا امتد من أواخر العصر الوسيط المتأخر إلى عصر النهضة «الرينسانس» وقد تم تجاوزه منذ أواخر القرن السابع عشر .. أو بعبارة أدق: تم تجاوز العصور القديمة كلها مع ديكارت ونيوتن وبيكون ولوك والتنوير الفرنسي. أما أثر العرب واليونان اليوم فهو أثر غير مباشر.. باستثناء بعض الحالات المتخصصة، ففي الدراسات اللاهوتية اليوم لا يزال ابن رشد والغزالي وابن سينا حاضرين.. وفي الدراسات الميتافيزيقية والجمالية لا يزال أرسطو وأفلاطون ذوي مكانة مرموقة.