«الحب، أعزك الله، أوله جد وآخره هزل. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل، وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير...». «كثيراً ما يكون لصوق الحب بالقلب من نظرة واحدة. وهو ينقسم قسمين، فالقسم الواحد مخالف للذي قبل هذا، وهو أن يعشق المرء صورة لا يعلم من هي ولا يدري لها اسماً ولا مستقراً، وقد عرض هذا لغير واحد». «للحب علامات يقفوها الفطن، ويهتدي إليها الذكي. فأولها إدمان النظر والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها، والمعربة عن بواطنها. فترى الناظر لا يطرف، يتنقل بتنقل المحبوب، وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال». «ومنها علامات متضادة وهي على قدر الدواعي، والعوارض الباعثة والأسباب المحركة والخواطر المهيجة. والأضداد أنداد، والأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، قدرة من الله عز وجل تضل فيها الأوهام. فهذا الثلج إذا أُدمن حبسه في اليد فعل فعل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والغم إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد، أسال الدمع من العينين». «فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما شديداً، كثر تهاجرهما بغير معنى، وتضادهما في القول تعمداً، وخروج بعضهما على بعض في كل يسير من الأمور، وتتبع كل منهما لفظة تقع من صاحبه، وتأولها على غير معناها، كل هذا تجربة ليبدو ما يعتقده كل واحد منهما في صاحبه». «والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة، المضادة المتولدة عن الشحناء ومحارجة التشاجر، سرعة الرضى، فإنك بينما ترى المحبين قد بلغا الغاية من الاختلاف الذي لا تقدره، يصلح عند الساكن النفس، السالم من الأحقاد في الزمن الطويل، ولا ينجز عند الحقود أبداً، فلا تلبث أن تراهما، قد عادا إلى أجمل الصحبة، وأهدرت المعاتبة، وسقط الخلاف، وانصرفا في ذلك الحين بعينه إلى المضاحكة والمداعبة، هكذا في الوقت مراراً». «ومن أعلامه أنك تجد المحب يستدعي سماع اسم من يحب، ويستلذ الكلام في أخباره ويجعلها هجيراه، ولا يرتاح لشيء ارتياحه لها، ولا ينهيه عن ذلك تخوف أن يفطن السامع ويفهم الحاضر». «ومن وجوه العشق: الوصل، وهو حظ رفيع، ومرتبة سرية، ودرجة عالية، وسعد طالع، بل هو الحياة المجددة والعيش السني، والسرور الدائم، ورحمة من الله عظيمة. ولولا أن الدنيا ممر ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره، لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه، والفرح الذي لا شائبة ولا حزن معه، وكمال الأماني، ومنهى الأراجي. «وأنه لمعجز ألسنة البلغاء، ومقصر فيه بيان الفصحاء، وعنده تطيش الألباب، وتعزب الأفهام وفي ذلك أقول: وسائل لي عما لي من العمر/ وقد رأى الشيب في الفوْدين والعذر- أجبته: ساعة لا شيء أحسبه/ عمراً سواها بحكم العقل والنظر- فقال لي: كيف ذا بينه لي فلقد/ أخبرتني أشنع الأنباء والخبر- فقلت: إن التي قلبي بها عَلِقٌ/ قبلتها قبلة يوم على خطر- فما أعد ولو طالت سِنِي سوى: تلك السويعة بالتحقيق من عمري». > بمثل هذه العبارات الواثقة الواضحة يملأ ابن حزم واحداً من أجمل الكتب وأعمقها في تاريخ الأدب العربي. ونقول الأدب، لا الفلسفة مع أن المؤلف فيلسوف، لأن السمة الغالبة على هذا الكتاب صفة أدبية حتى وإن كان موضوعه اجتماعياً يلامس الفلسفة. إنه كتاب «طوق الحمامة»، الذي وضعه فيلسوف قرطبة في بدايات القرن الحادي عشر الميلادي، ولا يزال حياً حتى اليوم، يُقرأ ويُهتدى به، ويحاول كثر تقليده، ويُحيى من قبل الباحثين والمفكرين بوصفه كتاب تنظير وسرد تجربة في الحب، ذلك الشعور الإنساني العميق الذي لا يفوت ابن حزم نفسه أن يلفت إلى أنه موضوع عصيّ على الكلام. > إن معظم الباحثين ينظر إلى «طوق الحمامة» اليوم لذاته، ولكن أيضاً لما ينم عنه وجوده نفسه من ازدهار وتطور هائل في تلك الحضارة الأندلسية الذي يعتبر نتاجاً من نتاجاتها، وتعبيراً عن ازدهارها، وقدرتها في لحظة من لحظات تاريخها على الدنو من مناطق كانت إما حساسة أو تعتبر ترفاً. بل إن ثمة من بين الباحثين من يشير إلى فرادة هذه التجربة التي يمثلها «طوق الحمامة» في مسيرة ابن حزم نفسه، ذلك الفيلسوف والمفكر المتقشف الذي يطغى على كتاباته الأسلوب الجاف والتأمل الفلسفي الجاد. ولا يكفي، طبعاً، لتفسير ظاهرة وجود هذا الكتاب بين مؤلفاته أن نذكر انه من كتابات شبابه، إذ وضعه وهو بالكاد بلغ الثلاثين. ففي نهاية الأمر لم يطلع هذا الكتاب من عدم، وإنما أتى في إطار ممهّد لذلك وسامح به. > إذاً، «طوق الحمامة» كتاب في الحب وعن الحب، قسمه مؤلفه إلى ثلاثين قسماً، راح في كل واحد منها يتحدث عن الحب وعن الأمور المتصلة به، حديث العارف الخبير، ملخصاً آراء عصره والعصور السابقة في كل موضوع يتناوله. غير أن هذا ليس كل شيء: فالمهم هنا، هو أن ابن حزم وفي كل فصل تقريباً، وبصدد كل موضوع، ينهي حديثه بإيراد أمثلة حية من «تجاربه الشخصية في الحب»، ما يجعل جزءاً أساسياً من هذا الكتاب يبدو وكأنه سيرة ذاتية عاطفية للمؤلف. فإذا أضفنا إلى هذا أن ابن حزم يزيّن معظم الفصول والفقرات بأشعار وآراء تصوّر مضمونها، صاغها هو أو نقلها عن آخرين، يصبح لدينا أيضاً ما يشبه «ديوان الحب» العربي. > وابن حزم، في تقديمه للكتاب، يحدثنا عن تقسيمه له إذ يقول: «وقسمت رسالتي هذه على ثلاثين باباً، منها في أصول الحب عشرة. فأولها باب (في ماهية الحب)، ثم باب (في علامات الحب)، ثم باب فيه ذكر من أحب في النوم، ثم باب فيه ذكر من أحب بالوصف. ثم باب فيه ذكر من أحب من نظرة واحدة. ثم باب فيه ذكر من لا تصح محبته إلا مع المطاولة. ثم باب التعريض بالقول. ثم باب الإشارة بالعين فباب المراسلة ثم باب السفير». ويوضح ابن حزم بعد ذلك أن في كتابه 12 باباً في أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة، وستة أبواب في الآفات الداخلة على الحب... الخ. ولئن كان ابن حزم يورد هذه القائمة بأبوابه فإنه في المقدمة يغض الطرف عن تجاربه التي يرويها للتأكيد على مضمون كل باب من الأبواب. > ومع هذا فإن وصفه لتلك التجارب، وأكثر من نصوص الكتاب النظرية نفسها، يضعنا على تماس مباشر مع الحياة الاجتماعية في أندلس ذلك الحين، لأن هذا المفكر إذ يسهب في الحديث عن حياته العاطفية، لا يفصل هذه الحياة عن إطارها الاجتماعي، وهكذا نجد أنفسنا نتنقل من مجلس إلى مجلس، من حياة الشعب إلى حياة القصور، ومن غراميات القيان إلى عالم المحظيات والجواري، في قرطبة القرن الحادي عشر، أيام خلافة المنصور. غير أن ما يلفت في هذا كله هو الصفة التي بها يصف ابن حزم هذا كله، واستنكافه عن كشف الأسرار العميقة، حتى ولو كانت نصوص الكتاب تهيئ لذلك. > ولد ابن حزم الأندلسيّ العام 994 م. (383 هـ.) في قرطبة، وكان فقيهاً ومنطقياً ومؤرخاً وشاعراً ومتكلماً، وكان ابناً لوزير يعمل في خدمة الخلفاء الأمويين في الأندلس، ما جعله هو نفسه يتبع خطى أبيه حتى الثلاثين من عمره، وهكذا عاش التقلبات السياسية وأودع السجن حين أفلت الدولة التي خدمها. وبعد السجن كان هناك المنفى حيث من المعروف أنه أمضى سنوات كثيرة من حياته خارج قرطبة، ومات بالقرب من اشبيلية في العام 1064 م. (455 هـ.). وهو وضع في المنفى كل كتبه باستثناء «طوق الحمامة»، وهي كتب عرفت على نطاق واسع ولعل من أهمها «الفصل في الملل والأهواء والنحل».