استفدت كثيراً ممن تحاورت معهم على مر السنين، ومن بينهم دكتور بول ستراخان الذي كان وما زال يعمل في وحدة أبحاث أنظمة الطاقة التابعة لقسم الهندسة الميكانيكية في جامعة ستراثكلايد البريطانية. في أحد الأيام رافقت هذا الدكتور الاستكلندي في سيارته في مشوار عمل من أجل الاجتماع مع باحثين، في مركز أبحاث مناظر، بخصوص موضوع مرتبط بعقد بحثي مشترك بين المركزين وبموضوع رسالتي للدكتوراه. من عادتي أن أتطرق للحديث عن حالة الطقس كلما وجدت نفسي في جلسة صمت مع أشخاص آخرين. ولكن هذه المرة لفت انتباهي أن الدكتور البريطاني يمتلك سيارة فولفو، سويدية الصنع، خلال مرحلة اقتصادية كانت تعاني فيها صناعة السيارات البريطانية من صعوبات مالية. حيث أغلقت بعض المصانع الصغيرة ودمجت أخرى، فضلا عن مجموعة روفر التي امتلكتها شركة بي ام دبليو الألمانية في عام 1990. فسألت الدكتور بول عن سبب امتلاكه فولفو، فسرد لي مميزات السيارة، وطبعاً كانت في مقدمتها معايير السلامة. فأعدت صياغة سؤالي، مستفسراً عن الأسباب التي أبعدته عن خيارات شراء سيارة بريطانية الصنع والمساهمة في إنعاش صناعة السيارات الوطنية. فأجابني بأنه يدعم الصناعات الوطنية من خلال صراحته في التعامل مع منتجاتها. يبلغهم، بشكل مباشر وغير مباشر، بملاحظاته السلبية قبل الإيجابية عن سلعهم، عبر المناسب من الوسائل المتاحة. ومن أكفأ هذه الوسائل، حسب رأيه، هو الحرص على اقتناء المنتج الانسب له بغض النظر عن بلد المنشأ. وأوضح بأن ليس للمنتجات البريطانية أي أولوية إلا عندما تتقارب في الأفضلية مع المنتجات المناظرة. فهو يرى في منهجيته الشرائية دعماً للصناعات الوطنية من خلال تحفيزها على الارتقاء والتميز وتعزيز مقومات الاستدامة. وفي المقابل، يعتقد الدكتور بأن «التعصب الوطني» في السلوك الشرائي قد يضر بمصالح المستهلك ويسقط كفاءة المنتج وينهي مستقبله. لذلك فإن سياسة الثواب والعقاب يجب أن تراعى في العلاقة بين التاجر والمستهلك، بل يفترض أن تطبق في جميع العلاقات وفي كل الاتجاهات وليس فقط من الأعلى (الأقوى) باتجاه الأدنى (الأضعف). لا يخفى على أحد في الكويت، أن سياسة الدعم الحكومي للمؤسسات والأفراد غير مقترنة بكفاءتهم. فعلى سبيل المثال الدعم الحكومي لمؤسسة الخطوط الجوية الكويتية غير مرتبط بمؤشرات قياس كفاءتها وفق المعايير الكمية والنوعية المعتمدة في شركات الطيران المناظرة. وعلى مستوى الأفراد، نجد أن الحكومة تدعم مستهلك الكهرباء والماء من غير تمييز بين المقتصد والمسرف. صحيح أن العديد من الخدمات والقطاعات تحتاج للدعم الحكومي حتى تنشأ وتستمر ثم تزدهر، ولكن استمرار الدعم دون ممارسة ثقافة المحاسبة، المقترنة بمبدأي الثواب والعقاب، من صور الفساد ومن محفزات الإفساد، لذلك ينبغي أن يرشّد الدعم الحكومي من خلال تنفيذ سياسة ثواب وعقاب متوافقة مع الواقع المعاش والتجارب المتراكمة. في مقابل الدعم الحكومي، هناك حاجة أيضا لترشيد الدعم الشعبي للرموز السياسية من خلال تعزيز ثقافتي الشفافية والمحاسبة، فعلى بالرغم من أن المشرع الكويتي أسس لنظام حكم ديموقراطي السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعا كما جاء في المادة رقم (6) من الدستور، إلا أن الواقع يؤكد بأن تلك الرؤية غير متحققة. النظام الدستوري في الكويت يتطلب ترسيخ حق الأمة في مراقبة الحكومة عبر البرلمان، ويستلزم تعزيز شفافية الحكومة أمام الأمة مروراً بالمجلس. ولكن الأمة تعاني من مرض التقديس، الذي يسقط حقها في مراقبة النواب والإطلاع بشفافية على أدائهم ومواقفهم. لذلك فإن إصلاح مجلس الأمة يتطلب انقلاباً في ثقافة المجتمع ليصبح مؤمناً بحقه في مطالبة النواب بالشفافية، وملتزماً بدوره في تقييم أدائهم وتقويمه من خلال القنوات المختلفة، حسب نطاق موضوع الإصلاح، وبما يتوافق مع شخصية النائب. فالقضايا العامة يفترض أن تطرح في آفاق أوسع من تلك الخاصة. والأعضاء الذين يستاؤون من النقد المباشر، ويرفضون تنمية ذواتهم لكي تتقبل الآراء المخالفة، يفضل توظيف وسائل غير مباشرة من أجل إيصال الملاحظات إليهم. ولكن في جميع الأحوال، فالإصلاح السياسي يتطلب مراقبة ونقد السياسيين، وقد تستوجب بعض الحالات المتفاقمة توجيههم أو مساءلتهم.. هكذا رسخت قواعد الديموقراطية في الدول المتحضرة. abdnakhi@yahoo.com