الخطابات الشائعة حول أزمة الأزهر الآن، تضع المسؤولية على شيخ الأزهر ومعه جماعة العلماء والمشايخ، حيناً من خلال القول بأن هناك عناصر بعضها من الغلاة أو من ذوي الميول إلى الجماعات السلفية والإخوانية هي التي تدير أمور الجامع والجامعة، على هواها، وهي التي تعرقل أي إمكان لتطوير السياسية التعليمية ومناهجها داخل كليات الجامعة. وبعض النقد يطال موقف المؤسسة من تجديد الخطاب الديني وأنها تناور، وتحاول احتواء عديد المطالب السياسية، ومن المثقفين والجمهور بضرورة إحداث نقلة نوعية في إنتاج الخطاب الديني، كي يستجيب مع تحديات وضرورات وأسئلة وإشكاليات عصرنا ومتغيراته المتلاحقة. بعض هذا النقد قد يكون صحيحا، ولكن يبدو لي أن الأزمات على تعددها أكثر تعقيداً مما يطرح في بعض الخطابات الشائعة والبسيطة التي باتت أقرب إلى الكلشيهات الجاهزة، والبداهات التي يعاد طرحها كلما جاء ذكر الأزهر، وشيخه الأكبر ومشايخه وطلابه. نحن إزاء أزمات تاريخية ممتدة، وتعد تعبيراً عن أزمة العقل ذاته، ومناهج تفكيره عموماً وطرائق مقاربته للظواهر الدينية الاجتماعية والسياسية والعلاقة مع الفنون والسرديات والجماليات، ومفاهيم الأخلاق، والإيمان والقيم وتغيراتها، والعقل النقلي بات سائداً. من هنا تحولت الشروح على النصوص والحواشي على الحواشي وكأنها هي الدين ذاته والعياذ بالله. وهذا النمط الشائع من الدمج بين البنى الفقهية والتفسيرية والتأويلية والإفتائية، وبين الإسلام، تشكل أحد العوائق المنهجية إزاء تجديد الفقه والفكر الديني، ومن ثم الخطابات الدينية على تعددها، واختلاف توجهاتها المذهبية والفقهية. إن تراجع الاتجاهات التجديدية التي بدأت ملامحها في البروز في نهاية القرن التاسع عشر، وحتى منتصف خمسينيات القرن الماضي، تعود إلى عديد العوامل ومنها، وقوف غالب الجماعة المحافظة كحائط صد في مواجهة المجددين، ومرجع ذلك أن المجددين شكلوا ولا يزالون تهديداً لمكانة هؤلاء الاجتماعية والدينية، ولأن انتشار الفكرة التجديدية منهجاً وتفسيراً وتأويلاً وخطاباً، يعني خروجهم من السوق الديني، وكشف أقنعة التقليد والمحافظة والغلو، لأنها تعبير عن تكوين فقهي تقليدي، وموقف اجتماعي، وعدم قدرة على مواجهة أسئلة وإشكاليات ومتغيرات عصرهم. ثم إن البيئة العقلية والفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية للمجتمع شبه الليبرالي والمفتوح، جذبت إليها بعض النبهاء من مشايخ الأزهر الذين انفتحوا على المعارف والمناهج والنظريات الحديثة في العلوم الاجتماعية، وبعضهم تحول إلى شيخ ومثقف ومفكر معاً. كما أدت التسلطية السياسية إلى إنتاج تسلطية دينية تستند إليها، من هنا نستطيع أن نلمح تناقضات في مواقف كبار المشايخ كتعبير عن تناقضات وتحولات السياسة الداخلية والخارجية للنظام وقادته، وقارن بين المرحلتين الناصرية والساداتية، وفي ظل مبارك. من هنا نستطيع القول إن نتاج هذه المرحلة الأخيرة وحتى الفترات الانتقالية، بعد 25 يناير 2011، كشفت عن اختلالات في المؤسسة، وسياستها التعليمية واختراق الإخوان والسلفيين والراديكاليين الإسلاميين السياسيين لها. تراجعت السياسة الدينية التجديدية والإصلاحية للدولة، وأصبحت طرفاً في استخدام بعض أطراف الحركة الإسلامية ضد بعضها دونما رؤية تتجاوز التوظيف السياسي اللحظي، إلى ضرورة إحداث تطوير وإصلاح كبير في المؤسسة، ونظامها وسياستها ومناهجها التعليمية، وتركت الأمور لاختيارات بعض المشايخ الغلاة الذين نافسوا بعض مشايخ الراديكاليات السياسية الإسلامية وجماعة الإخوان، وبعضهم كانوا أعضاء في هذه الجماعات. من هنا يمكن تفسير التراجع عن التقريب بين المذاهب، باعتبار الأزهر السني هو الإطار الجامع للحوار والتقريب بين المسلمين جميعاً. وهكذا تحول الأزهر إلى أحد أطراف الصراع، وكأن الأزهر ــ بكل تقاليده وتاريخه الديني ــ أصبح ظلاً ورديفاً لتوجهات وسياسات بعض هذه الدول، وأحد أسلحتها في مواجهة مذهب معين. من ثم لابد من تحرير الأزهر من الأثر الإخواني، وضرورة الحوار الموضوعي والتاريخي الجاد مع الشيعة العرب خصوصاً ومراجعهم في النجف الأشرف، لأن هؤلاء مهددون في عروبتهم لصالح المرجعية الإيرانية في قم. إن إصلاح سياسة الأزهر إزاء الشيعة العرب من خلال الحوار والتقريب ستفتح الباب أمام هوامش لحركة الدولة المصرية في دعم السنة والشيعة العرب في العراق مثلاً لاستعادة حضورهم العربي، والأهم بناء التكامل الوطني في مجتمعات تتفكك، وتنقسم بما يؤثر سلباً في حضورنا في الإقليم.