×
محافظة المنطقة الشرقية

إنجازات داخلية وتحديات إقليمية وقرارات تاريخية .. 34 عاما من الإنجازات والتطلعات في مسيرة مجلس التعاون الخليجي

صورة الخبر

من الوعظ ما يفتح العقل وينير القلب، ولا يجافي الصريح الواضح من الكتاب والسنة، ولا يمزج الرأي الشخصي بدين الله تعالى. ومن الوعظ ما هو بخلاف ذلك، مما يقدّم على أنه من الكتاب والسنة وما هو في الحقيقة إلا رأي الواعظ واجتهاده الشخصي، وهذا الرأي والاجتهاد لا يكون موفقا دائما فيصيب ويخطئ، وربما يتجاوز خطؤه إلى الانحراف الفكري صراحة بل الضلال في بعض الأحيان. وإذا كان يفترض في الوعظ أن يكون سبيلا من سبل نشر الوعي وتيقظ البصيرة؛ فإنه سيؤدي عكس وظيفته إذا كان سبيلا من سبل تزييف الوعي وعمى البصيرة. وإذا كان الوعي يكون بتقديم الحقائق كما هي بلا إفراط ولا تفريط ولا تهويل ولا تهوين؛ فإن تزييف الوعي يكون بقلب الحقائق أو طمسها أو تشويشها أو تقديمها على غير ما هي عليه، ولذلك صور شتى. فمن صور تزييف الوعي مثلا، عدم مراعاة فقه الأولويات، والمقصود بفقه الأولويات تسليط الضوء على ما هو أولى، فلا يقدم ما حقه التأخير، ولا يؤخر ما حقه التقديم، ولا يُكبر الصغير، ولا يُصغر الكبير، ولا يُجعل الخلافي والاجتهادي كأنه متفق عليه، ولا يُجعل المتفق عليه خلافيا اجتهاديًا، وهكذا؛ ففي حين تكون الأصول مغيبة، فالحديث في الفروع لا يسوغ، وحين يكون المتفق عليه بين المسلمين غير مطبق، فإشغالهم بالمختلف فيه إضاعة للوقت. فهناك من يشغله حكم حلق اللحية وإسبال الثوب وتغطية وجه المرأة عن مفهوم العدل الاجتماعي، ومن أمثلة هذا: ذاك الضجيج الذي جرى قبل مدة حول "عمل المرأة" في بعض المهن، دون مبالاة بفقرها وعوزها وحاجتها، مع القبول بأن تمد يدها للصدقة لكن المهم ألا تكسب قوتها وقوت عيالها بنفسها إذا لم تكن في مجتمع نسائي محض بحجج كثيرة "جدلية" يقدمونها لا اتفاق عليها أصلا بين أهل العلم. وبودّي هنا أن أستحضر فتوى لابن تيمية تصلح أن تكون مثالا منهجيا يقدّمه هذا العلامة الفذ، والتي من خلالها ندرك بعض الانحرافات التي يقدمها الوعاظ على أساس أنها وعي وتبصرة، وما هي بوعي ولا تبصرة. جاء في فتاوى ابن تيمية "ج29: ص 553" هذا السؤال: سئل رحمه الله "عن ضامن يطلب منه السلطان على الأفراح التي يحصل فيها بعض المنكرات: من غناء النساء الحرائر للرجال الأجانب ونحوه، فإن أمر السلطان بإبطال ذلك الفعل أبطله وطالب الضامن بالمال الذي لم يلتزمه إلا على ذلك الفعل؛ لأن عقد الضمان وجب لذلك الفعل والمضمون عنه يعتقد أن ذلك لم يدخل في الضمان، والضامن يعتقد دخوله؛ لجريان عادة من تقدمه من الضمان به وأن الضمان وقع على الحالة والعادة المتقدمة. فأجاب: ظلم الضامن بمطالبته بما لا يجب عليه بالعقد الذي دخل فيه، وإن كان محرما أبلغ تحريما من غناء الأجنبية للرجال؛ لأن الظلم من المحرمات العقلية الشرعية، وأما هذا الغناء فإنما نهي عنه، لأنه قد يدعو إلى الزنا كما حرم النظر إلى الأجنبية؛ ولأن فيه خلافا شاذا؛ ولأن غناء الإماء الذي يسمعه الرجل قد كان الصحابة يسمعونه في العرسات، كما كانوا ينظرون إلى الإماء لعدم الفتنة في رؤيتهن وسماع أصواتهن فتحريم هذا أخف من تحريم الظلم فلا يدفع أخف المحرمين بالتزام أشدهما. وأما غناء الرجال للرجال فلم يبلغنا أنه كان في عهد الصحابة. يبقى غناء النساء للنساء في العرس، وأما غناء الحرائر للرجال بالدف فمشروع في الأفراح كحديث الناذرة وغناها مع ذلك. ولكن نصب مغنية للنساء والرجال: هذا منكر بكل حال؛ بخلاف من ليست صنعتها وكذلك أخذ العوض عليه، والله أعلم". انتهت الفتوى. أما السؤال فهو عن مؤجِّر يبطل على مستأجر إقامته "أفراحا منكرة" أي "حفلات غنائية" تغنّي فيها النساء للرجال الأجانب. من حيث يرى المؤجّر أن هذا ليس متضمنا في عقد التأجير، بينما "العادة" في ذلك الزمان أن هذا العمل "أي إقامة الأفراح على تلك الصورة" داخل في الضمان بهذه العادة. فماذا كان جواب ابن تيمية؟ يرى ابن تيمية أن ظلم هذا المستأجر بمطالبته بما لا يجب في العقد الذي دخل فيه -وإن كان هذا العقد محرما- إلا أنه أبلغ وأعظم تحريما من مجرد غناء المرأة الأجنبية للرجال! لماذا؟ 1. لأن الظلم من المحرمات العقلية الشرعية، أما الغناء فهو من المحرّمات الشرعية فقط، من حيث كونه "ذريعة" إلى الزنا، أي إن تحريم الظلم هو تحريم مقاصد، وتحريم الغناء هو تحريم وسائل، والمقاصد أعظم شأنا من الوسائل، وما هو محرم لذاته أدعى للإنكار من المحرم لغيره. 2. الظلم لا خلاف فيه، ولكن الغناء فيه خلاف شاذ كما يقول ابن تيمية، وما لا خلاف فيه أولى مما فيه خلاف ولو كان خلافا شاذا. فتأمل أخي القارئ كيف يراعي ابن تيمية في تقديره للأمور، كيف يراعي الخلاف ولو كان "خلافا شاذا" فيجعل وجود هذا الخلاف داخلا في تقدير "ما هو أولى بالإنكار". لكن من وعاظنا من يقيم الدنيا ولا يقعدها من أجل مسائل فيها خلاف معتبر غير شاذ، ولن ينتهي فيه الخلاف إلى قيام الساعة. 3. لا يجوز إنكار الفعل المحرّم بما هو أشد تحريما منه. ولا دفع الأخف حرمة بالأشد حرمة. ختاما؛ حضرت مرة خطبة جمعة بعد "كارثة الأسهم" التي أدخلت الدموع إلى آلاف البيوت قبل سنين، فإذا الواعظ بارك الله فيه يؤنب الناس على اعتبار أن ما جرى إنما هو "عقوبة من الله" لهم، وأنهم "يستحقون" تلك العقوبة! ولعلك تذكر أخي القارئ ما قيل ويقال فيما يصيب بعض المناطق من زلازل أو اهتزازات أو عواصف أو غيرها أنه "عقوبة" من الله. كأن الله أوحى إلى هؤلاء بنص صريح أن ما أصاب قوما بأعينهم هو عقوبة منه حقا، أو أن "كل" ما يجري من ظواهر الكون وسنن الطبيعة التي وضعها الله فيها ما هو إلا عقوبة؛ قياسا على ما جرى لعاد وثمود وقارون وفرعون وهامان! بتلك الأمثلة وأشباهها يكون الوعظ حقا وسيلة من وسائل "تزييف الوعي"، وطمس الحقائق، أو التشويش عليها. والله يتولانا جميعا برحمته، آمين.