بيروت: مازن مجوز استغرق العمل فيه قرابة الـ17 عاما، حتى استطاع صاحبه أن يخرجه تحفة فنية وفسيفساء عصرية. يضم بين أجنحته الـ17 مئات المنحوتات الصخرية والآلاف من المقتنيات التراثية والقطع الأثرية النادرة، ليخلد مشهد كل منها ويحفظها لكل الأجيال المقبلة. يشكل متحف «لبنان من قلب الصخر» الذي يفترش مساحة 500 متر مربع، وأبصر النور قبل عامين، برعاية وزارتي السياحة والثقافة اللبنانية، صورة مصغرة عن لبنان، ولكن بلغة الحجر. يأخذك في رحلة مشوقة إلى لبنان بتاريخه وحضارته وتراثه وفي جولة عالمية. فن جمالي نحتته أنامل الشاب اللبناني هلال عواضة بالإزميل، وجعلته ينبض بالحياة، محولا الأنظار إلى بلدته حزرتا البقاعية النائية، المشهورة بهدوئها وطبيعتها الصخرية. ويقول عواضة في حديث لـ«الشرق الأوسط» التي التقته في أحد أجنحة المعرض «منحوتاتي فريدة من نوعها، بعضها يحتاج إلى 10 أيام، والآخر يتطلب ستة أشهر من الجهد والعمل المتواصل، أردت أن أبرهن للناس أن الصخر لا يتكلم وحسب، بل هو فن ناطق بجمالية قد تكون بعيدة عن الأنظار، وتعكس حديثا شيقا وإبداعا فريدا أخاطب به الواقع». ويضيف: «يبلغ مجموع منحوتاتي الصخرية المزركشة 1654، فيما يتخطى عمر القطع المتنوعة ما بين الشرقية والأوروبية التراثية آلاف السنوات، جمعتها بدقة وعناية ومحبة». فنان غير عادي أمضى حياته في التعامل مع أصلب أنواع الصخور من جهة، والبحث عما هو قديم ونادر من جهة أخرى. بكل جد، كان يصل الليل بالنهار مقفلا على نفسه تحت سطح الأرض، ليخرج تحفته للعالم أجمع, للمثقفين والمهتمين بالعراقة والأصالة لطلاب المعرفة من طلاب مدارس وجامعات وأشخاص يعشقون التجول بين آثار الحاضر والماضي، مما فيه استشراف للقريب الآتي، فكان بحق نافذة يطلون من خلالها على التاريخ بعفوية وبساطة لبنانية. واللافت في المتحف عناوينه المتنوعة والموزعة على كل جناح، إذ تلخّص موجوداته والحقبة التي تنتمي إليها. جرّة عملاقة رمز الضيافة والكرم اختارها عواضة مدخلا لمتحفه، منها تنطلق في رحلة شبه سندبادية تأخذك إلى حقب تاريخية وبلدان متنوعة في ساعات قليلة، تتمنى لو أنها لا تنتهي. تدخل الجرة وفي ذهنك ألف سؤال وسؤال، ما الهدف من إنشاء متحف كهذا؟ وكيف حفرت تلك الصخور الصماء؟ ليأتيك الجواب سريعا من معروضات الأسلحة القديمة جدا، وأجهزة الراديو البدائية، والمنحوتات الصخرية المتنوعة الأحجام. الوقت ثمين وممنوع إضاعته عند عواضة، إذ تراه منشغلا في إتمام منحوتة «نرجيلة» سيضعها في جناح «الإمارة ولو عَالحجارة» المخصص لمنحوتات صخرية مثلت خرائط بعض الدول، إلى جانبها «النراجيل» الملوكية المرصعة بالفيروز والعقيق، والمحاطة بالثريات النادرة من النحاس والفخار معا. «الحق لمن صدق وليس لمن سبق»، هو عنوان الجناح المخصص للإعلام اللبناني، حيث نحت عواضة أسماء وسائله مع شعاراتها على صخور رائعة الجمال، إلى مجموعة من أجهزة الراديو (المذياع) القديمة العهد. فيما يستوقفك «السامور» (أبريق الشاي الصادر في روسيا) الممهور بتوقيع رؤساء 22 دولة أوروبية جال فيها. الجولة في أرجاء المتحف تعيد الزائر إلى العهد العثماني مع الطوابع الأميرية المتنوعة، وإلى الحروب المتنقلة مع الأسلحة المنحوتة من الصخر، تربعت على أحد الجدران وإلى جانبها مجموعة من الآلات الموسيقية الرائعة. أما في جناح «لا أغنية زوجت عريس ولا دعوة مزقت قميص»، فتتعرف على صندوق العروس الصخري (هو شيء من التراث دأبت أمهاتنا وجداتنا على توفره في جهازها عندما تنتقل إلى بيت عريسها). وبالطبع لا ينحصر اهتمام عواضة بالمرأة هنا، حيث يجذبك مشاركتها وحضورها في كل الأجنحة، مخصصا لها أروع الحقائب وأجملها، إضافة إلى معروضات كثيرة لحلي وأقراط محاطة برعاية وعناية، من خلال عرضها في خزائن زجاجية خاصة. كما تلفتك إحدى روائع المتحف، وهي عبارة عن سبحة من الحجر تضم 99 حبة مع شاهدين ومئذنة، وقد حفر على كل حبة منها واحدا من أسماء الله الحسنى، ويبلغ طولها 46 مترا، أما وزن كل حبة فيها فيقدر بـ9 كيلوغرامات، واعتبرت من أجمل المنحوتات وأكثرها روعة. إلى جانب السبحة نحت عواضة أكبر خاتم ملكة يعود للعهد الفينيقي، ويبلغ وزنه 185 كلغ، واستغرق العمل به نحو ثلاثة أشهر متواصلة، ويأمل أن يدخل به وبالسبحة قريبا في موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية. ولم يغب الفلاح وأدواته الزراعية التراثية عن بال عواضة، فنحت العشرات منها من صخر، كالمورج، السكة، الجرار والشاكوش. وردا على سؤال حول الجديد لديه يجيب: «أنا في صدد إنجاز آخر سأقدمه للعالم كناية عن متحف سيتضمن مجموعات تعود إلى الفترتين (1830 – 1866) و(1905 - 1923)»، واصفا إياها بالقطع الثمينة جدا، التي كان يجمعها ملوك العالم، كاشفا أنه لم يبقَ أمامه سوى 10 دول للانتهاء من المتحف الذي باتت كل أجنحته شبه جاهزة، معلنا أن الافتتاح سيكون خلال ثلاثة أشهر على أبعد تقدير. يتناول الشاب الثلاثيني أفكاره بـ«الصدفة»؛ فأحيانا حديث عابر ينزل إلهام المنحوتة عليه فيهرع لنحتها، وأحيانا من تساؤلات الزوار والسياح. واليوم، بدأت سمعة المتحف تتسع بين اللبنانيين وحتى السياح العرب والأجانب. يؤكد عواضة: «لو كان هناك موسم سياحي رائد لكنت في القمة، لكن لا تصل السياحة إلى 1.5 في المائة، بسبب الأزمات التي تعصف بمنطقتنا». ويختم كاشفا أن مشروعه المستقبلي هو تحويل قريته ببيوتها وشرفاتها وطرقاتها إلى كتلة نحتية ناطقة.