×
محافظة المنطقة الشرقية

وفاة المخرج والسيناريست المصري رأفت الميهي

صورة الخبر

لعل واحدة من الظواهر الأدبية الأبرز خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، تمثلت في الارتفاع المدهش لعدد الكتّاب البيض الكبار الذين غلب على أعمالهم - الروائية خصوصاً وغير الروائية عموماً - طابع الدفاع عن قضية الشعب الأسود في جنوب أفريقيا، والتصدي لكل صنوف التمييز العنصري هناك. ونعرف أن عدداً لا بأس به من أولئك الكتّاب، سواء كانوا من مواليد وسكان جنوب أفريقيا نفسها، أم من أنغلو - ساكسونيين آخرين تبنوا قضاياها، فاز بجوائز عالمية كبرى، ومن أهمها جائزة نوبل التي منحت لنادين غورديمر وغوتزه ومن بعدهما إلى دوريس ليسنغ بين آخرين، وتحديداً بفضل أعمالهم الجنوب أفريقية. وفي المقابل نعرف أيضاً أنه إذا كان ثمة كتّاب سود تبنّوا بدورهم قضية ذلك الشعب الجنوب أفريقي الأسود الذي ناضل أكثر من ثلاثة أرباع القرن حتى يحصل على استقلاله وكرامته، فإن هؤلاء الكتّاب غالباً ما كانوا، من أمثال ويل سوينكا وطوني موريسون، من سكان ومواطني أمم أخرى. وخلاصة هذا، أن أسماء الكتّاب الأفارقة الجنوبيين السود في هذا المجال كانت قليلة دائماً. فإن وجِد واحد منهم وأصدر كتباً، فإن الشهرة كان نادراً لها أن تصل إليه. وهذا أمر جدير بالدراسة طبعاً. وفي انتظار ذلك، لا بأس أن نشير هنا إلى أن ثمة مع هذا، عدداً ولو محدوداً من كتّاب سود انتموا إلى شعب جنوب أفريقيا، تمكنت نصوص لهم من اختراق جدار الصمت، فترجمت وعرفت على نطاق ما، خارج المناطق التي تشكل موطنهم. ومن هؤلاء الكتّاب سيغو سيبمالا، الذي رحل عن عالمنا قبل سنوات، من دون أن يشغل نبأ رحيله مكاناً بارزاً، لا في صحافة العالم ولا في الصحافة العربية. > ومع هذا يعني سيغو سيبمالا الكثير لشعبه. وتعتبر كتاباته، منذ بداية سنوات السبعين على الأقل، مساهمة سوداء مميزة، في الأدب النضالي الجنوب أفريقي، وكذلك في وضع اسم هذا البلد على خريطة الحياة الأدبية في العالم. وسيبمالا ينتمي إلى الجيل الثاني من كتّاب ذلك البلد، الجيل الذي ولد أبناؤه مع بدايات الثلث الثاني من القرن العشرين، وراحت أعمال هؤلاء الأبناء تبرز، مبرزة الجيل كله معها، عند بدايات الثلث الثالث. وفي هذا الإطار تضاف إلى اسم سيبمالا عادة، أسماء ميريام تلالي وميغا رامغوبين ولويس نكوسي. غير أن سيبمالا ظل الأشهر بينهم، بفضل روايته الأشهر «هجمة في الريح» التي ترجمت إلى عدة لغات أخرى، غير الإنكليزية التي كتبت بها في الأصل، بعنوان «العودة إلى سويتو». > نشر سيبمالا هذه الرواية للمرة الأولى عام 1981، فتلقفها القرّاء على الفور ليجعلوا لكاتبها مكانة أساسية متقدمة في الحياة الأدبية بجنوب أفريقيا. لكن سيبمالا لم يكن جديداً في عالم الأدب في ذلك الحين، إذ إنه كان قد بدأ ينشر الشعر وغير الشعر من نصوص نثرية منذ عام 1975. أما بالنسبة إلى الرواية فإن «هجمة في الريح» كانت روايته الثانية والأخيرة، هو الذي كان نشر قبلها بسنتين رواية أولى عنوانها «الجذر واحد» (1979). غير أن «هجمة في الريح» بدت على الفور أكثر أهمية، كما بدت أكثر انخراطاً في الموضوع الذي أتت لتعبر عنه: موضوع نضال الشبيبة السود ضد التمييز العنصري. > من الناحية التقنية أتت «هجمة في الريح» أشبه بريبورتاج واقعي. إذ حتى وإن كان الكاتب قد ابتكر شخصيات روايته وعلاقاتهم في استنباط مباشر من خياله، وربما من رغبته العارمة في ذلك الحين في أن يخلق شخصيات يعيّشها، ما كان يمكن له هو أن يعيشه - مع إحساسه بأن سنه في ذلك الحين (نحو أربعين سنة) لم تكن مناسبة لذلك النوع من النضال، فإنه - أي الكاتب - جعل للشخصيات سمات واقعية حقيقية، بحيث إن كل طالب وشاب جنوبي أفريقي يافع، تمكّن في ذلك الحين من أن يجد في الرواية مرآة تعكس صورته وصورة نضاله. لكن الرواية لم تسع أبداً لأن تجعل المرآة على كل النقاء الذي كان يمكن لنا أن نتصوره. ذلك أن سيبمالا لم يفته أن يوجّه سهام النقد وإن بلطف، إلى الشخصيات التي صوّر في روايته حياتها وضروب نضالها. كما أن الكاتب، من خلال تصويره المميّز للحياة اليومية في مدينة سويتو خلال النصف الثاني من سنوات السبعين، عرف كيف يقدم صورة دقيقة عابقة بالحياة لأجواء كان يعرف - هو - تماماً، محاسنها ومساوئها، من دون أن يخامره أي وهم بأن الحق هو دائماً على الغريب وعلى المحتل. صحيح أن الغريب غريب وظالم، والمحتل محتل. ولكن مهلاً بعض الشيء! إن ثمة أخطاء كثيرة نقترفها نحن أيضاً وتجعلنا بالتالي نتحمل جزءاً لا بأس به من المسؤولية. لقد كان خطاب سيبمالا واضحاً في هذا السياق... ومع هذا فإن وضوحه لم يشفع لروايته لدى السلطات العنصرية التي لم يفتها أن تمنع الرواية من التداول أول الأمر... لكنها بعد حين - وإذ قرأها كما يبدو رقيب ذكي - عادت وسمحت بها تحت ذريعة واجب جعل القراء البيض يعرفون في شكل أفضل كيف يحب أن يعيش السكان السود! > واضح هنا مدى البهلوانية في هذه الذريعة... ومع هذا علينا ألا ننكر أنها أنقذت الرواية من المنع جاعلة إياها واحداً من النصوص السود القليلة المسموح بقراءتها مع أن موضوعها الرئيسي هو نضال الشبان السود. وهؤلاء الشبان الذين يطالعوننا منذ أول الرواية هنا هم مجموعة من طلاب ثانويين يطاردهم رجال الشرطة بعد أن طُردوا من مدارسهم إثر الإضراب الطالبي الشهير الذي حصل في سويتو عام 1976. واللافت هنا هو أن الكاتب لا يتوقف طويلاً ليتحدث عن تلك الأحداث مفترضاً، بالطبع، أن قارئه يعرفها من الناحية التاريخية. ومن هنا نراه ينتقل مباشرة ليعيّشنا في أجواء الطلاب الذين جعلهم غير راغبين في الحديث المسهب عن الأحداث وخلفياتها السياسية. إنهم هنا، في الرواية، في قلب الحدث. وهم يعرفونه جيداً، إلى درجة لا تضطرهم إلى الكلام عنه بين بعضهم البعض. من هنا يدور كلامهم حول ما يتوجب فعله وحول ما يفعلون. وما يفعلون هو النضال اليومي ضد النظام الممارس أعنف أشكال التمييز العنصري. ولأن النظام قمعي وعنيف، كان من الضروري أن يكون النضال ضده سرياً. ومن هنا يدخلنا الكاتب مباشرة إلى قلب النضال السري للطالب وممارساته وأشكاله. أما الشكل الرئيسي لهذا النضال فيتمثل في مطاردة الشرطة وإرباكها يومياً بفضل رمي قنابل مولوتوف يدوية الصنع على ما يتيسر من مبان رسمية. وهم إذ تنجح تجاربهم الأولى يتحول نضالهم إلى ساعات فرح طاغية مملوءة بالحماسة... ويتحلقون أكثر وأكثر من حول الشاب اليافع الذي اختاروه زعيماً لهم، من دون أن تكون لديهم أو لديه خبرة نضالية عنفية حقيقية... بالنسبة إليهم، المهم هو إيجاد اواليات النضال يوماً بعد يوم. ومن ثم ابتكار وسائل متدرجة لممارسة النضال وتنظيمه، مستندين إلى تساهل الكبار في السن الذين يبدأون بالنظر إلى أولئك الفتية كمثل أعلى حقيقي لمن يريد أن يناضل. غير أن هذا كله يتبدل جذرياً مع ظهور المناضل المحترف إفري، المسلح والمدرَّب الذي يصل إلى المكان ليرفع من وتيرة النضال وعنفه لدى الشبان. إذ، من الآن وصاعداً، يجب أن يحمى النضال وأولاً عبر نسف مركز ضخم للشرطة وقتل مسؤول في هذه الشرطة يكرهه سكان الحي. وانطلاقاً من هنا نصل إلى القسم الثالث من الكتاب الذي تدور أحداثه في سجن أودع فيه الشبان، بعد القبض عليهم وراحوا يُضربون يومياً، ويُقتلون... في وقت كان لا بد للنضال الشاب أن يتواصل في الخارج. > سيغو سيبمالا (1932 - 2007) الذي كان، حين ألف هذه الرواية يلقب بـ «شاعر المدن»، أمضى القسم الأكبر من حياته في سويتو، التي ولد في إحدى مدن الضواحي القريبة منها. ومن هنا عبر معظم نصوصه عن الحياة في تلك المنطقة حيث كان يعيش مليون من البائسين السود مكدسين فوق بعضهم البعض، غير بعيد من الأحياء الراقية والنظيفة التي كان البيض يعيشون فيها. وهذا الواقع المتفاوت كان هو أول ما رصده سيغو ما إن وعى الحياة. وبالتالي، ما إن تحوّل إلى الكتابة لاحقاً، حتى بدأ يعبّر عن ذلك الواقع شعراً أول الأمر، ثم في سلسلة نصوص جعل عنوانها العام «سويتو التي أحب»... وأخيراً في الروايتين الأخيرتين. وعلى رغم أن اسم سيبمالا غير معروف كثيراً خارج بلاده، فإن الفرنسيين منحوه وسام الآداب والفنون، كما أن دولاً أخرى منحته جوائزها أيضاً. أما هو ففضّل دائماً، وحتى رحيله، أن يعيش صامتاً متأملاً، كاتباً، خادماً أمته بعد الاستقلال كعضو في مجلس الآداب والفنون.