للحقيقة دائما أكثر من وجه، ففي الوقت الذي نشرت فيه وسائل الإعلام وتداولت خبر وصور ومقاطع تحرش شباب بفتاتين في جدة، ثار الغيورون وكتب الجميع وتعاطف مع تلك الوحشية التي قام بها الشباب على أحد أرصفة الكورنيش في جدة، فيما لم يتقبل الكثير هذه الحادثة، فطالب بعضهم بمعاقبة الشباب، وآخرون أعادوا المطالبة بقانون يحمي من التحرش، وآخرون وهم الحسيون الذين لا يرون في الموقف غير الأشياء الحسية والمادية، كان المتهم الوحيد هو العباءة المثيرة، وخروج الفتيات بغير محرم. إلى هنا ويكون الخبر عاديا جدا، بل ويحدث كل يوم من هنا وهناك، ولكن حوادث التحرش التي تحظى بفرصة تصويرها ثم نشرها تجد صدى وتداولا أكبر، بل إن الأمر يصل إلى المسؤولين ويتم تصعيد القضية. إلى هنا أيضا والأمر طبيعي، طالما هو تحت عنوان "تحرش شباب بفتاتين، ولكن ماذا إن أصبحت الحقيقة مثالا حقيقيا وواقعيا لمقولة: إن الخبر العادي هو أن يعض كلب رجلا، ولكن المثير للدهشة هو أن يعض الرجلُ كلبا؟". وهذا ما حدث على وجه التحديد في قضية التحرش المتداولة. ماذا لو أن أحدهم لم يصور ويوثق الجانب الآخر للحقيقة؛ ليحظى الشباب بفرصة عادلة لا تدينهم بقدر ما تدين الموقف ذاته، وهو ما يذكر بمقولة عمر بن عبدالعزيز: "إذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه، فلا تحكم له حتى يأتي خصمه فلعله قد فقئت عيناه جميعا". نعم، هذا ما حدث بعد أن نُشر الجزء المهم من حقيقة الحادثة التي لم تكن من الأساس حادثة تحرش، ولا حادثة ذئب ونعاج، ولم يعض أحدهما الآخر باعتبار أن الخبر المثير أصبح الآن "كلب عض الرجل". حيث أظهر المقطع أو الجزء الثاني من فيلم الفتاتين والذئاب أن كل ما هنالك أن مجموعة من الشباب المراهقين وفتاتين حاولوا أن يمرحوا -بطريقة ما- في أيام العيد بحيث إن الفتيات أردن اللعب بطريقة الاستعراض الحرّ "المحرم" الذي يبيح لهن ركوب دراجة بثلاث عجلات بينما مجموعة الشباب انساقوا في التشجيع والاندهاش في لحظات مرح عالية الأمر الذي لا ينفي أن الفتيات هن من أثرن الموقف باستعراضهن هذا بما يعني أنهن شاركن في الفعل. في مجتمع آخر، ربما في بلد مجاور.. الحادثة التي وسمت بأنها "تحرش" ليست إلا مرحا ولعبا لا تجرمه القوانين. بينما لدينا تحول المشهد بأكمله إلى رهاب جنسي نادر، وهو أمر متوقع في بيئة ليس فيها مسارح، سينما، مهرجانات وبها كثير من الانغلاق.