أتيح لي كصحافي أُتابع مسيرة العلاقات العربية مع تركيز في حقبة الستينات والسبعينات على الأحوال المصرية، أن أكون قريبًا من بعض ناسجي البساط الدبلوماسي العربي بكل ما يحويه هذا البساط من خيوط ورسوم وألوان. وفي مقر الجامعة العربية في القاهرة كنتُ مع زملاء آخرين نترقب الاجتماعات العادية أو الاستثنائية لوزراء الخارجية العرب لكي نعرف منهم الكثير مما يُثري ما يبعث به كل منا إلى الصحيفة التي يعمل فيها من معلومات وتحليلات أو أحاديث صحافية، فضلاً عن توطيد العلاقة مع هؤلاء الوزراء الذين باجتماعاتهم في مقر الأمانة العامة للجامعة العربية يحققون للصحافي ما يصعب تحقيقه خارج هذه المناسبة. وفي كل هذه الاجتماعات، وبالذات عندما تكون هنالك أزمة بالغة التعقيد في العلاقات العربية ويتطلب الأمر عقْد قمة غير تلك التي تنعقد بشكل دوري، كان الأمير سعود الفيصل حتى قبل انصرافه المهيب يوم الأربعاء 29 أبريل (نيسان) 2015 وتعيينه مشرفًا على السياسة الخارجية، الوزير الذي ننتظر ما سيقوله بعد الاجتماع ونسعى إلى معرفة ما قاله داخل الجلسة المغلقة. ولعل اجتماع مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية يوم الثلاثاء 28 مارس (آذار) 1978 هو الأهم في اجتماعات أهل الدبلوماسية العربية رغم أنه كان غير مكتمل. كان الغرض من الاجتماع هو استدراك أمر غير مستحب انفرد الرئيس أنور السادات في اتخاذه مع أنه يخص الدول العربية من دون استثناء ولا يتحمل الاجتهادات إلى درجة الإقدام. فقد قرر الرئيس السادات مباغتًا القادة العرب أنه في صدد إبرام اتفاقية سلام مع إسرائيل. وبعدما كان قادة العالم العربي على درجة من الوفاق وعلى موعد مع قمة تنعقد يوم 15 فبراير (شباط) 1978، يسبقها اجتماع لمجلس الدفاع العربي وآخر للمجلس الاقتصادي العربي وثالث لوزراء الخارجية، بهدف تعزيز الصف ودعْم «مؤتمر السلام في الشرق الأوسط» في جنيف، كان الرئيس السادات يُجري في غفلة عنهم اتصالات مع رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن انتهت بتوجيه الأخير يوم 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1977 دعوة إلى السادات لزيارة القدس لبَّاها الرئيس المصري بعد يومين (19 نوفمبر) منفِّذًا بذلك قوله في خطاب في مجلس الشعب (البرلمان) يوم 9 نوفمبر 1977 وبحضور الرئيس ياسر عرفات: «إنني على استعداد للذهاب إلى مؤتمر جنيف، بل إلى آخر العالم، وإن إسرائيل ستُدهَش عندما أقول إنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم.. إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم...». بعد الذي باغتهم به الرئيس السادات توزعوا ثلاثة اتجاهات: دول معترضة ومتحفظة تحاول تقريب السادات من رؤيتها، ودول حائرة لا تدري هل تتفهم الخطوة الساداتية أم تصطف مع المعترِضين المتحفظين، و«جبهة الصمود والتصدي». إزاء ذلك بات لا بد كما هو التقليد المأخوذ به عندما تكون هنالك حالة من التعقيد، عقْد قمة استثنائية مع ملاحظة أن الحالة التي نشأت عن الفعل الساداتي تحمل نُذر تصدعات خطيرة في البنيان العربي. ولكي تنعقد قمة وسط هذه الظروف لا بد من تهيئة تساعد في اختصار مساحة الغضب وتقلل من هامش النفور وتهدئ من روْع الذين ينادون بالصمود والتصدي. وبعد جولات من التشاور وراء الكواليس استقر الأمر على اجتماع لمجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية عُقد يوم الثلاثاء 28 مارس 1978 وقاطعه وزراء خارجية دول «الصمود والتصدي» سوريا والعراق وليبيا والجزائر ومنظمة التحرير الفلسطينية. وانتهى الاجتماع بعد مناقشات مستفيضة من جانب المشاركين إلى أنه لكي تنعقد قمة عربية مجدية من المهم مشاركة الجميع فيها، ولكي يشارك الجميع لا بد من الذهاب إلى دواوين المتحفظين والمعترضين وإلى دعاة الصمود والتصدي والتشاور معهم فيما يرونه من أجل عقْد قمة لا تكرس تبعثُر الصف الذي بات نتيجة الفعل الساداتي على أهبة انقسام مخيف. واستقرت المناقشات على أن يكون هنالك وفد تحت اسم «لجنة التضامن العربي» روعي في تشكيلها أن يكون رئيسها قريبًا من السادات وقادرًا على أن يخاطبه بما يعدِّل جموحه نحو إبرام اتفاق مع إسرائيل. ولذا كان اختيار الرئيس السوداني (الراحل) جعفر نميري وعضوية وزراء خارجية كل من: السعودية (الأمير سعود الفيصل)، والأردن (الشريف عبد الحميد شرف)، والكويت (الشيخ صباح الأحمد - الأمير الحالي)، ودولة الإمارات (أحمد خليفة السويدي)، والسودان (الرشيد الطاهر)، واليمن (عبد الله الأصنج)، والأمين العام للجامعة العربية (الراحل) محمود رياض. قامت اللجنة بجولات وبذلت من الجهد المشكور ما يستحق توثيق هذه المحطة من تاريخ العمل العربي. وشملت الجولات لقاءات مع الرئيس (الراحل) حافظ الأسد، والرئيس (الراحل) أحمد حسن البكر، والرئيس (الراحل) هواري بومدين، والملك (الراحل) الحسن الثاني، والرئيس (الراحل) أنور السادات، والرئيس اليمني الجنوبي سالم ربيع علي، والرئيس اليمني الشمالي المقدم أحمد الغاشمي، والسلطان قابوس، والشيخ (الراحل) زايد آل نهيان، والشيخ خليفة بن حمد (أمير قطر الأسبق)، والشيخ (الراحل) عيسى بن سلمان أمير البحرين، والد الملك حمد بن عيسى، والشيخ (الراحل) جابر الأحمد أمير الكويت السابق، والملك (الراحل) حسين. أما الرئيس الليبي (الراحل) معمر القذافي فاعتذر عن عدم استقبال اللجنة بذريعة أنه لا يعترف بها. هذه اللجنة استحوذت على اهتمام استثنائي من جانبي كصحافي منذ اليوم الأول للتشاور في شأن التحرك الذي لا بد منه بأمل ثني الرئيس السادات عما رآه وتخفيف جموحه قدْر الإمكان، ثم بعدما انتهت مناقشات المشاركين في اجتماع مجلس الجامعة يوم الثلاثاء 28 مارس 1978 وبعد ذلك الجولات المكوكية. وكنتُ كثير السعي من أجل معرفة القدْر الأكبر من المعلومات حول الذي جرى. ولقد أثمر السعي وقوفي مطلع الثمانينات على المحاضر السرية لهذا الحدث المميز في العمل العربي وائتمنت بعدم النشر. بعض نجوم هذه الحقبة التي حدثت فيها هذه المحاولة الدؤوبة لرتق الثوب العربي باتوا إما في الظل أو في القمة أو في ذمة الله. وأحدث المنتقلين إلى جوار رب العالمين الأمير سعود الفيصل الذي رفد مشاورات اللجنة بالكثير من الأفكار التي كانت تجمع بين مراعاة ظروف مصر، وفي الوقت نفسه الحرص على ألا يتسبب التفرد الساداتي بتداعيات كتلك التي حدثت بعد ذلك ومنها تجميد عضوية مصر في الجامعة العربية ونقْل مقر الأمانة العامة للجامعة مؤقتًا من القاهرة إلى تونس. ومن بين الأفكار التي طرحها الأمير سعود وكانت الجولات لم تحقق تعديلاً في موقف الرئيس السادات الذي يرى على حد قوله «إن 99.99 في المائة من أوراق حل قضية الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة...»، هو أنه ما دام هنالك إصرار مصري على الاتصال بإسرائيل فليكن هذا الاتصال بالواسطة، أي عن طريق الولايات المتحدة وليس مباشرة. ولكي يشق اقتراح الأمير سعود طريقه نحو التطبيق تعديلاً لمقولة الرئيس السادات بأن 99.99 في المائة من أوراق حل قضية الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة، رأى الأمير سعود خلال مناقشة اجتماع مجلس الجامعة «ضرورة السعي بتحقيق توازُن بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، إذ إن كلاً من الدولتين لها مصالحها في المنطقة وبالتالي لا يمكن استبعاد طرف وتقريب طرف آخر...». وهذا كان رأي الشيخ صباح الأحمد. هذه السطور بما حوته من وقائع استخلصتُها من بين عشرات الصفحات من ملف المحاضر السرية لهذا الحدث العربي يوم الثلاثاء 28 مارس 1978 وما تلاه من بضعة أسابيع استغرقها التجوال واللقاءات وتبادُل الرسائل، ارتأيتُ وقد رحل الأمير سعود تاركًا تراثًا مبهرًا في عالم الدبلوماسية يا ليت أطال الله في عمره لكي يكتب للأجيال العربية تجربته كما سائر أصحاب التجارب الدبلوماسية والسياسية في العالم، استخلاصها لأقول فيما الفواجع تتواصل في العالم العربي بدءًا من اليوم الذي فاجأ الرئيس السادات أمته باستباق جنوحه نحو السلام مع إسرائيل من دون أن تكون إسرائيل مستعدة للرد على الجنوح بمثله، يا ليت أصغى الرئيس السادات إلى ما اقترحه الأمير سعود، فهو لو كان أجرى الاتصال عن طريق الولايات المتحدة وليس مباشرة مع إسرائيل لكان بذلك ألقى على الإدارة الأميركية مسؤولية الفشل أو في حال أثمر دورها يكون مطمئنًا إلى أن أي خروج من جانب إسرائيل ستكون الإدارة الأميركية كفيلة بمعالجته. وما هو بالأهمية نفسها أن الأخذ بما اقترحه الأمير سعود كان سيحظى بغطاء من جانب قمة عربية تنعقد وكانت هذه القمة لن تُجمِّد عضوية مصر ولن تنقل مقر الأمانة العامة للجامعة إلى تونس وكان الأمين العام سيبقى مصريًا. والاقتراح - النصيحة المشار إليه من جانب الأمير سعود ليس الوحيد. ففي كل أزمة تشتد من لبنان إلى فلسطين إلى العلاقة الخليجية إلى إيران إلى العراق إلى اليمن إلى سوريا إلى التأزم مع أميركا وروسيا كانت له أفكار واقتراحات كأنها وصفات، أفادت من أخذ بها.. ومن لم يأخذ ندم متأخرا.