لم تنجح أنجلينا جولي في إقناعي بمشاهدة أفلامها، لأنني لا أحب الـ «آكشن»، لكنها أقنعتني وبقوة أنها إنسانة رائعة، وصاحبة رسالة عظيمة، وأن ما تفعله هو انعكاس لما يمكن أن تحمل من صفات نبيلة، ومنها التزام الإنسان بمسؤوليته تجاه مجتمعه، فماذا لو أن دوره هذا امتد خارج مجتمعه المحلي ليبلغ المجتمع الإنساني كله؟ وأظن أن إجراءها الجراحة كإجراء وقائي ضد سرطان الثدي أكبر هدية قدمتها لحملات إنقاذ النساء من هذا المرض الخبيث. ولكن، قبل أن أتحدث عن دور أنجلينا جولي يجب أن أشيد بالمنظمات الدولية والهيئات الإنسانية التي استطاعت أن توفر مثل هذه الأدوار الذكية لنجوم شعبيين تلاحقهم الكاميرات وأخبار الصحف في خدمة القضايا الإنسانية. تميزت أنجلينا جولي في ذلك بجدارة أكثر من غيرها، لأنها على ما يبدو أكثر اجتهاداً وصدقاً من كثيرين تبنوا الدور نفسه، وحملوا الشهرة نفسها، لكنهم فرّطوا في الدور، أو ربما لم يكونوا جاهزين له كما ينبغي، وإن كان هذا صحيحاً فلم قبلوه؟ هل لأنهم رأوا فيه تميزاً لهم، وظنوا أنه يمنحهم من دون أن يمنحوه؟ زارت أنجلينا جولي أخيراً اللاجئين السوريين كي تلفت أنظار العالم المهتم بتحركاتها، لقضية الشعب السوري ومآسيه، وتسعى حالياً لاحتضان طفل سوري يتيم، وقد تنجح في ضمّه إلى عائلتها، فما الذي يجعلها كلما ذهبت إلى مكان بائس تتوسل السبل كلها لتتبنى طفلاً يتيماً تحتضنه وتربيه، حتى عادل عدد الأيتام في أسرتها عدد أبنائها البيولوجيين؟ إن منح الهبات من أموال طائلة قد يكون أسهل من تبني طفل له متطلباته مع مسؤولية عظيمة لا تدركها إلا الأمهات، كما أن تقديم المساعدات لأبناء مجتمعك وجلدتك أمر قد يبدو متوقعاً في ظل سياقك الثقافي المحلي، فكيف استطاع أناس مثل أنجلينا جولي وبل غيتس وغيرهما تجاوز نطاق البذل والعطاء إلى المختلف، والارتقاء إلى حدود الرابطة الإنسانية الأكثر سمواً ونبلاً، هل هي الثقافة التي عززت مثل هذا التسامح؟ والعزيمة في خدمة الآخر الذي ليس من دينك ولا لونك ولا قوميتك؟ ولم يشعر البعض في مجتمعاتنا الإسلامية بأن إمامته لمصلين كلهم من العمالة الوافدة مضيعة للوقت وخسارة كما في إحدى النكات السعودية؟ لا أظن أننا بحاجة للاغتراف من شواهد خارجية كي نتحدث عن مثل هذه القيم، فنحن أكثر الناس علماً بها، لكننا عجزنا عن الخروج من محدودية فهمها وتطوير مداها، ولا تزال دعوة بناء المساجد حتى ولو وسط خرائب وحارات فقيرة، دعوة تتقدم على إقامة هذه الخرائب وإنقاذ الإنسان الذي دمره الفقر والجهل والمرض، وما تبعه من خراب أخلاقي أيضاً. كثير من أغنيائنا يتفرجون على حال فقرائنا وأحيائهم الفقيرة، وقد يحمّلون الحكومة المحلية مسؤولية غياب الكفاية الصحية في بعض الأحياء أو الحدائق أو دورات المياه. يكفي بعض التجار بناء مسجد ضخم يحمل اسمه كي يظن أنه قام بدوره أمام الله وأمام المجتمع، بينما تبقى الحارات خلف هذا المسجد بمدارسها ودورات مياهها وبنيانها غير صالحة للاستخدام الإنساني. في تقرير بثّه التلفزيون المصري لمناسبة ذكرى رحيل العالم المصري مصطفى محمود، شاهدت شقته -المتواضعة جداً- التي عاش فيها حتى موته، وبساطة ثيابه، لكن التقرير أوضح أن مصطفى محمود شيّد ثلاثة مراكز طبية في أحياء فقيرة، ومسجداً شهيراً في القاهرة. لقد أنقذ مصطفى محمود نفسه من تدمير الثروة، وبدلاً من أن يتورط في آثامها، منحها للناس. bdryah@gmail.com