×
محافظة المنطقة الشرقية

سرقة سيارة بداخلها طفلة في الدمام وتركها بالقطيف

صورة الخبر

(1) التقيت الأستاذ الأديب حسين بافقيه مرتين، وكان قد سبق اسمه إليّ بما كتب حيث همه الملحّ في التاريخ الثقافي بالمملكة، خصوصا في منطقة الحجاز، إذ يعد مرجعًا مهما في هذا الجانب، كان اللقاء الأول في ضيافة الزميل عبدالله الفارسي، مع ثلة من المثقفين والشعراء، وقد دار الحديث عن الأندية الأدبية ولوائحها، وكان الأستاذ حسين بافقيه يتحدث من موقع المسؤولية التي أنيطت به، والهم الذي ألقي على كاهله في ظل الصعوبات التي تعترض كل من تصدى لرسم خطى الثقافة ضمن مؤسسات تجمع الأشتات الفكرية والثقافية وتحاول أن ترضي جميع الأطراف، في شدة اختلاف مع شدة ائتلاف، كما هو تعبير سلفنا عبدالقاهر، لكن الأستاذ حسين ترجّل مبكرا واعتذر عن مواصلة السير في هذا الخندق، ليتفرغ لهمومه الثقافية: يبحث ويفحص ويكتب محققا وناقدا، أما اللقاء الثاني فكان في مشاركة في سوق عكاظ، حين كلفت بإعداد ورقة عن حسين سرحان، كانت تدور حول استلهامه للطبيعة وقد شاركني الأستاذ بافقيه في هذه الأمسية بورقة مشابهة، حيث لاحظنا معًا أن الشاعر الحجازي حسين سرحان مثقف متنوع المشارب، ينفتح على كل الثقافات بدءًا بالشعر العامي الذي يتمثّله في جانبه الثقافي الشفهي، ويشيد ببعض صوره ومعانيه المبتكرة العميقة. (2) وكعادة الملتقيات الثقافية بين المتن والهامش، يمتد الهامش في تلك الملتقيات ليصير متنا، حيث جمعنا لقاء على هامش الملتقى، تطارحنا فيه بعض الهموم الثقافية، من ضمنها المزاوجة بين القديم والحديث، وكان يلحّ على ضرورة أن يكتب الناقد الحديث رؤاه بلغة كلاسيكية بعيدًا عن التقعر النقدي واستجلاب المصطلحات الغامضة، وقد شاركته هذا الهم، بل شعرت أنه يقول كلامًا قد نُقِشَ في صدري، لكنه كان المتحدث الرسمي به، والسابق إلى طرحه على طاولة النقاش، فقادنا هذا الحديث إلى كتب شيخنا الجليل الدكتور محمد أبوموسى، فأبدى دهشته من أسلوب الشيخ وعمق قراءته، وأكّد أن الشيخ يسافر مع دلالات النصوص الشعرية بلغة مختلفة يخطئ من يصفها باللغة التقليدية، وهو ما أكدته في لقاء إذاعي، حين قلت إن الشيخ أبوموسى عالم جليل يحمي حمى التراث لكنه يقرأ النصوص بانفتاح دلالي مبهر، يعجز دعاة العصرنة أن يجاروا قلمه في هذا المضمار، فبدا لي أني عثرت على الأستاذ حسين هذه المرة من الداخل، حين لمحت بعض تفاصيله الداخلية تتقاطع مع تفاصيلي، وحين يعثر المرء على من يشبهه ولو في بعض ما يهجس به يأنس، وقد أنستُ كثيرا بالأستاذ الأديب بافقيه، وعزمت أن أتواصل معه لأحفر عن بعض الأشياء المطمورة في أعماقه. ( 3) وقبل أيام قمت بزيارة للمكتبة واقتنيت كتابين للأستاذ حسين بافقيه «مضايق الشعر» و»ذاكرة الرواق وحلم المطبعة»، وهذا الأخير في تاريخ أصول الثقافة الحديثة بمكة، لكنه مع ذلك يبدأ من جذور الثقافة المكية، في رحلة ماتعة بين الأعلام والمطابع والمدارس والرؤى القديمة والجديدة، مع التأكيد على أن مكة لم تفتر ولم تتوقف عن الثقافة، في تنوع وانفتاح عجيب على الثقافات، أما الكتاب الثاني «مضايق الشعر» فكان قراءة للنظرية الشعرية عند حمزة شحاته، وقد ظهر المؤلف تارة محققا مدققا يمتاح من مدرسة الشيخ محمود شاكر في طريقته وتارةً قارئا مستنبطا ما في أعماق مقدمة شحاته لكتاب شعراء الحجاز في العصر الحديث لعبدالسلام الساسي، وتارةً جامعًا بين القديم والحديث، يبدأ بالقاضي الجرجاني ويعرج بكروتشه وريتشارد ولنسون، ثم يعود لابن طباطبا وعبدالقاهر، دون أن ينسى الرافعي وطه حسين، وهو في ذلك يعكس تنوعًا ثقافيا مختلفًا موازيًا لتنوَع مكة وتركيبتها الثقافية والاجتماعية المتعددة، فكأنه كتب مكة مكانًا ثم تمثلها إنسانا، وكنت في هذه الأثناء أتنقّل بين أفكاره ورؤاه، دون علم مني أنه، في الجهة المقابلة، قد وقع نظره على روايتي ساعة الرمل مصادفة، كما حدثني من بعد، فاقتناها يقضي بها وقته كما يقول، فكان أن أكرم الرواية وصاحبها بتغريدات تويترية لم تسبقها شفاعة ولا إهداء، وكنت في الوقت نفسه قد عزمت على إهدائه نسخة من روايتي بعد أن اطلعت على اهتمامه الكبير بالثقافة المكية، لعله يجد شيئا ذا بال، ولكن سبق نظره وقلمه إليها، حين وصلتني بعض تغريداته التي أتحف بها الرواية في اللحظة التي أنا فيها بين مضايق الشعر. ( 4) آخر الصدف العجيبة بيني وبين هذا الأديب حسين بافقيه هو أنه أثناء انهماكي في كتبه أطلعت على مقاله المنشور في صحيفة «المدينة» تحت عنوان «شعر عامي...أم مقاييس بلاط» والذي يمثل تنوعه الثقافي وانفتاحه على كل الأشكال والأجناس الثقافية والأدبية، تمامًا كما هو الحال للشاعر الأديب الحجازي حسين سرحان، وقد لفتَ في مقالته إلى طبقية الثقافة، وانشطارها بين الرسمي والعامي، وأن ثمة مقاييس لثقافة البلاط ترتدي فيها زيها الرسمي، فيما الثقافة الشعبية توصف بالعامية، وهذا الهم من الهموم المؤرقة في ثقافتنا، وسبب أصيل في انفصامنا اللغوي والفكري والثقافي، وأعتقد أن الأمر يعود إلى أنا نتلقى الثقافة بإحساس اجتماعي طبقي، يجعلنا لا ننصهر في وجدان اللغة، وإنما نمسها من الخارج فحسب، وهو سبب من أسباب أن الشعر الفصيح يأتي بلغة منفصلة عن الوجدان، تبدو لسامعها كأنها تتلى من منبر عال، لا من عمق الشارع الثقافي، وبرأيي أن من مارس العمل الإبداعي ووقف على الشعر العامي الجيد، لا الرديء، في صوره ومعانيه، وفي نماذجه العليا، لن يماري في أنه طريق إلى وجدان اللغة الأم، وطريق إلى فهمها من الداخل، فهي ليست إلا الرسوم القديمة للغة الفصحى، وتأتي في مقابل الطلل الشعري الذي يفتتح به الشعراء قصائدهم الجياد، فليس حلا ولا دفاعًا عن الفصحى ركل الأدب العامي بكل ما فيه من ثراء وتنوّع ثقافي، وفرق كبير بين العامية حين ترتقي فتكون لغة شاعرة وبينها حين تكون لغة خطاب، لأنها حين تكون لغة شاعرة تتحول من التوصيل إلى التشكيل، وتكون حاملة للثقافة لا حاملة للفكر، وهذا هو الفرق بين دراستها وتدريسها، بين اكتشافها وبين جعلها لغة الخطاب الثقافي الرسمي، وهذا الأخير - أي جعلها لغة خطاب - هو ما يشترك جميع المثقفين بكل أطيافهم في رفضه. المزيد من الصور :