تحمل الصور الآتية من طهران شيئاً معدياً من ذلك الفرح الفائض عن وجوه أصحابها وحركة اجسادهم الراقصة. شباب وشابات تخففوا من انضباط السلوك الصارم المفروض عليهم قسراً، وخرجوا يحتفلون بـ«نصر أنجز بلا حرب» وفق ما عنونت الصحف المحلية ذات التوجه الإصلاحي. هم يحتفلون بأمل يعقدونه على مستقبلهم، من تحسين شروط حياة، وتوسيع هامش حريات، ورفع عقوبات قاسية فرضت عليهم فدفع المجتمع الإيراني والطبقة الوسطى ثمنها وليس القــــادة والساسة بطبيعة الحال. ولا مهرب لمن ينحاز تلقائياً للناس العاديين وهمومهم وطموحاتهم من أن يصيبه شيء من تلك العدوى. لكن المنطق هذا لا ينطبق على الجميع، حتى ضمن المعسكر الواحد. فثمة من هم مقاومون لذلك الفرح وممانعون له من أهل البيت نفسه. ذاك أن الخشية من تغير الأحوال، واحتمالات انقطاع صنبور المال أو شح دفقه، والذي قد يترافق مع بعض التخلي السياسي عن مشاريع وحلفاء إقليميين، يثير قلقاً مشروعاً في أوساط كثيرة مـثل «حزب الله» أو النظام السوري. وفي حين كان يتوقع أن تنطلق عبارات «خوش أمديد» من الضاحية الجنوبية لبيروت ترحيباً بهذا الإنجاز الكبير، أو أن يكرسه أمين عام «حزب الله» «نصراً إلهياً» ثانياً، ساد صمت مريب وكثير من الترقب. فلطالما استدعت مباراة كرة قدم للمنتخب الإيراني بهرجة في بيروت واحـــتفالات وإطلاق أعيرة نارية، أكــثر مــما استدعاه اتفاق بهذا الحجم. وفي مقابل بعض التصريحات الرسمية هنا وهناك للإشادة بالديبلوماسية الإيرانية، بدأ في الواقع يتسلل الخوف من المجهول وشيء من الانكسار لدى شريحة واسعة من القاعدة الشعبــــية لـ «حـــزب الله» ومؤيديه من خارج الحزبيين، تماماً كما كانت الحال بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وما خلفه من أيتام وسط الأنظمة والتنظــيمات في منطقتنا. وكما صعق الرفاق آنذاك بتلك الرغبة الجامحة والدفينة في آن، لدى أقرانهم من المعسكر الاشتراكي بالتقرب من الغرب والتشبه به، وما عادوا قادرين على وصفهم بـ «الخونة» والمزايدة عليهم بالعداء للامبريالية، فوجئ اليوم جمهور عريض من مؤيدي النظام الإيراني في لبنان، بتوق أبنائه للانعتاق منه. وفي حين ليس غريباً أن يكشف ذلك التوتر الواضح انحياز الحزب للنظام وليس لناسه، إلا أنه كشف أيضاً غربة جمهوره وقاعدته الشعبية عن هؤلاء الإيرانيــــين العاديين الذين كان يفترض أن يشبههم وتجمعه بهم قضايا وهموم مشتركة. لكن، كيف يفرح من يقاتل ابنه ويقتل في سورية أو العراق، لمن أبرم اتفاقاً بشعار «نصر بلا حرب»؟ فالقول أن إيران أبرمت اتفاقاً تاريخياً من دون أن تخوض حرباً صـــحيح، إذا ما اعتبرنا أن الحرب تقتصر على العمل العسكري ضمن مساحتها الجغرافية. لكن، ماذا عن كل تلك الحروب التي خاضتها وتخوضها بالوكالة في لبـــنان والعـــراق وســورية واليمن؟ أليست مما يثبت نفــوذها ويمنحها قوة لفرض شروطها في مفاوضات كهذه؟ قيادة «حزب الله» تعلم جيداً أن معارك سياسية وعسكرية وأمنــــية كثيـــرة خاضتها إيران عبره وعبر غيره من أذرعها، لتحقق اليوم هذا النجاح الديبلوماسي الباهر. لـــكن جمهوره استيقظ على حيرة وريبة من ذلك الوفاق المستجد مع الشيـــطان الأكبر وتلك الرغبة المكبوتة لمــــصالحته. وفي ذلك لا شـــك مرارة كبيرة يتحمل الحزب مسؤوليــتها بالدرجة الأولى. ففي إيران، انطلق النقاش سريعاً حول التحديات الاجتماعية المقبلة، وانتظارات شعبية بتحقيق مطالب الثورة الخضراء. ومن ساحات الاحتفال بالاتفاق النووي، أطلقت نداءات مستعجلة للإفراج عن معتقلين وناشطين لا يزالون خلف القضبان منذ 2009. وبدا واضحاً أن غالبية الشارع الإيراني منكبة على ذاتها، وحريصة على تحقيق مكتسبات تتيح لها الاستفادة من ثروات بلادهه ومقوماتها واستثمارها في توسيع الهوامش الاجتماعية والسياسية الداخلية، وليس في خوض حروب خارجية كما يطمح المحافظون. أما في لبنان، فلا يزال أمين عام الحزب، حسن نصرالله، يقود الحافلات إلى القدس مروراً بالزبداني... فهل يوقظ ذلك شيئاً لدى جمهوره؟