تخرج علينا أحياناً أفلام مغربية تحمل تواقيع مخرجين ذات رنة أجنبية أو غير مألوفة. أفلام تحصل على الرعاية، وقد تُعرض في دورة من دورات مهرجان مغربي، وتوزع في القاعات الوطنية. ومن ذلك فيلم «خونة»، الذي حظي برمزية تمثيل المغرب في المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، وهو أمر ليس بالهين. وربما ظن من تخيره أن الاسم الأميركي لصاحبه قد يمنح له فرصاً أكبر للتتويج. غير أن بحثاً عن اسم المخرج يفيدنا بأن الرجل لم يخرج فيلماً من قبل، بل هو ممثل لعب أدواراً في بضعة أفلام لصديقه المخرج دارين أرنوفسكي لا أكثر ولا أقل. وطبعاً، هذه المعطيات لن تكون ذات أهمية لو أنه استطاع إنجاز فيلم مستحق، وهو ما نود الوقوف عنده بعد المشاهدة، فحين يخرج الفيلم يصير حتماً حاملاً لوجه وثائقي ولسيرة حكائية وقد يُقرأ بشتى العيون. جاذبية طنجة مرة أخرى والمخرج مقيم اﻵن بمدينة طنجة، حيث يستقر ويعمل في المجال الجمعوي والفني. ويبدو أن هذه الحاضرة لا تزال تسحر عشاق الفن الغربيين، هي التي تحتل مكاناً بارزاً في اﻷدب اﻷميركي المعاصر، بما أن جيلاً كاملاً من كُتابه المتألقين أقاموا فيها، لما تتمتع به من ألق وتفرد، وما يستتبع ذلك من غرابة تنعكس على الوجود اﻹنساني كما سطرها خالدةً زعيم هذا الجيل الروائي بول بولز. وهي أيضاً مدينة هرقل وعموده الشهير ومدينة العبور ومدينة كل الممنوعات وجل المرغوبات. غير أن المخرج لم ير في فيلمه من طنجة أي أساس من أسس اﻷسطورة الطنجية، الثقافية والأسطورية. فقط ما تحيل عليه كمدينة حديثة، ذلك الخارج الذي لكل المدن كفضاء سكن بلا تميز، بعمارات تتناسل في الضواحي وفي الشمس نهاراً، وبليل صاخب غير محمود العواقب. مدينة الكاتب محمد شكري القديمة بعيدة وغائبة. ويحدث هذا التصور لفضاء سكني غالباً حين يتوافر مخرج على قصة سينمائية، ويريد إخراجها فيلماً فقط بأسرع ما يمكن، وظناً منه بوجود ما هو مثير فيها لم يسبق تناوله، بلا خلفية ثقافية. فتاة روك مغربية أما الذي يثيره هنا، فيتجلى في اختلاقه شخصية فتاة تتزعم فرقة موسيقى روك مغربية هي المعادل لحياتها كامرأة شابة في مجتمع مثقل بالمشاكل ووسط عائلة مفككة وداخل حاضر شخصي بلا أفق مشرق. هي ستارة سوداوية تنطلق منها أولى لقطات الفيلم بشكلٍ غارق في التظليل المخيف. وبقدر ما تبدو الفتاة/ الممثلة (شيماء بنعشة في دور متألق، هي التي تألقت من قبل في فيلم «ملاك» لعبد السلام الكلاعي) بوجه معبر ورائق، قوية التأثير وحاملة لكل وزر الشريط ووقائعه وحيدة، يبدو الخارج مبالغاً فيه ومهلهلاً. طنجة هذه تبدو هنا مدينة غير ودودة مليئة بحانات وجموع بشرية متسارعة وقوافل سيارات تبدو كأنها ديكور ﻻ أكثر، فاﻷهم لدى المخرج هي القصة التي أدخلته عالم الإخراج السينمائي كما قلنا في البداية، ثم الفتاة التي وجد في شخصية ذات مقدرات فنية تمكنها من تحمل أحداثها. لقد رمى بها المخرج في هوة متزايدة القعر وتملى متابعتها من بعيد. ﻷنه ود تحت تأثير الواقع السينمائي المغربي أن يتشبه بمخرجين مغاربة جعلوا من طنجة مجاﻻً للمساهمة في نقد المجتمع، مثل هشام عيوش الذي يعحبه، وهو ما بدا سطحياً وﻻ أثر له في حقيقة الأمر. لقد بدا نقداً لمحناه عبر فضح، مثلاً، تجارة المخدرات وتهريبها، مع كل التواطؤات التي تُسهلها، من فساد أفراد واختراقات متعددة، والتي هي في جل اﻷحوال ظاهرة كونية، ووجودها في السينما أمر قديم ومعاد، بل أحد الركائز القوية لسينما الحركة والعنف. وهكذا، لأن مليكة تتمنى تسجيل أغنية روك تصدح فيها القيثارة والآﻻت الموسيقية الصاخبة بمكنونات قلب فتاة حرة ﻻ تريد الانصياع، فهي تحاول أن تبحث عن المال في غابة طنجة الليلية. بعد مغامرة مرور في حانة وبعد توالي مشاكل في البيت ثم في العمل وبعد سوء تفاهم مع والدها غير المهتم، نراها تضيع في الشوارع، وتلتقي بتاجر مخدرات يقترح عليها استعمال مهارتها في سياقة السيارات وإتقانها الميكانيكا كي تقوم بعملية تهريب واحدة وتحصل على المال. وهنا يظهر جلياً انحسار طنجة المدينة، لينتقل الشريط إلى مسارات الطرق والمسالك الجبلية نحو مجال إنتاج المخدرات اليدوي. يمر المخرج مرور الكرام على الواقع اﻷصلي ليركز كأميركي على أفراد العصابة وجماعتهم للدفع بالفيلم قدماً، وخاصة على فتاة أخرى هي من سترافق مليكة في مغامرة السفر المحفوفة بالخطر، ليشكلن الواجهة والفريسة والضحية حين ﻻ تسير اﻷمور وفق الطريقة المخطط لها. وفي النهاية، نرانا نتواجد إزاء فيلم مغامرات جماهيري شبابي. وﻷن اﻷميركي المشبع بأفلام الدرجة «ب» يخرج من معطف المخرج شين كوليت لنقل بغير إرادته، ﻻ بد له أن يُعلي من شأن الخير وإظهار بطل مخلص، فتتحول مليكة بطلة منقذة بسذاجة، قد نقول مضحكة لوﻻ قدرة الممثلة على رسم ملامح جدية وتعبير بلا أحاسيس ضعف. وتبدو الحالة كما لو أن الشخصية/ الممثلة تنتصر على المخرج ونواياه اﻷولية، فتقدم لقطات تحد وعزيمة قويين. تصبر إلى أن تدفع برفيقتها نحو الهروب جهة المطار، وتركن السيارة في مكان ما، وتختلق قصة لتبرير ما حصل ببرودة دم ونظرات محايدة تجعلها تزرع بشجاعة بذور شقاق في لحمة العصابة. طبعاً، لن تنطلي الحيلة طويلاً، لكنها ستمكنها من الخروج من عنق زجاحة الهلاك. الشيء الذي يظهر بوضوح، طرح الفيلم المنتصر للفتاة الطنجاوية لساناً وجسداً، لكن الغربية في العديد من صفاتها الفيزيقية، ومن طباعها بلمسة المخرج الذي كتبها ورسمها. الشيء الذي يمكّننا من القول بوجود إسقاط ليس سلبياً في حد ذاته، بما أن الفن يجعله قائماً بذاته ومشروعاً، لكنه في حواشي الفيلم الأخرى من ديكور وشخصيات ثانوية ونوايا عامة، يبدو مقحماً. شريط يقتنص لمحة ضئيلة تشتهر بها مدينة كي ينشئ حكياً صورياً عاماً. لكن في كل الأحوال، هو عمل سينمائي استطاع أميركي أن يُنطق فيه الدارجة المغربية.