انتعشت الآمال بشدة في العالم بقرب التوصل إلى مصالحة تاريخية بين الفرقاء الأفغان بعد اللقاء التاريخي، الذي جمع لأول مرة بصورة رسمية وعلنية، بين وفد من الحكومة الأفغانية، برئاسة نائب وزير الخارجية حكمت قرضاي، وأعضاء بارزين من جماعة طالبان في مدينة موري، بالقرب من العاصمة الباكستانية إسلام آباد في 8 يوليو/تموز الماضي. حيث هدف هذا اللقاء، الذي وصفه رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف بالاختراق في الصراع الذي يهز أفغانستان منذ سقوط نظام طالبان على يد الحملة العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة في عام 2001، إلى تبادل وجهات النظر حول كيفية استعادة السلام وبدء المصالحة في أفغانستان. صحيح أن اللقاء الذي حضره مراقبون صينيون وأمريكيون، لم يسفر عن نتائج محددة، سوى أن المشاركين فيه قرروا معاودة الاجتماع مرة أخرى في منتصف شهر أغسطس/آب القادم في العاصمة القطرية الدوحة، إلا أن الكثير من المراقبين اعتبره خطوة مهمة من أجل تحقيق المصالحة واستعادة السلام في أفغانستان. فالحكومة الأفغانية وصفته بأنه البداية الرسمية للمفاوضات وبأنه أول خطوة نحو سلام دائم في بلد أنهكته 35 سنة من الحرب، معبرة عن شكرها لكل من باكستان والصين والولايات المتحدة لتعاونها في إنجاح هذا اللقاء. ومن جهته، رحب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أيضاً بهذا اللقاء الذي اعتبره أول محادثات مباشرة على الإطلاق بين الطرفين، كما أثنى على باكستان للدور البناء الذي لعبته في استضافة الجانبين. من جهة ثانية، أشادت الإدارة الأمريكية بإيلاء الحكومة الأفغانية الأولوية لجهود السلام والمصالحة مع طالبان. وكانت اللقاءات السرية وغير الرسمية بين ممثلي الحكومة الأفغانية الجديدة، وحركة طالبان، تعددت في الأشهر الأخيرة، في قطر والصين والنرويج، من أجل التوصل إلى مصالحة بين الجانبين رغم أن قيادات طالبان أعلنت مراراً أنها لا تعترف بالحكومة الأفغانية في كابول، وأنها لن تتفاوض مع هذه الحكومة قبل خروج جميع القوات الأجنبية من البلاد، وإجراء تعديلات على الدستور الأفغاني الجديد، بما يضمن إقامة نظام إسلامي في البلاد. غير أن هذا الموقف المعارض للمصالحة والداعي إلى مواصلة الحرب والتصعيد العملياتي ضد الحكومة الأفغانية، يبدو أنه قد بدأ بالتغير النسبي لمصلحة تيار متنامي داخل حركة طالبان يدعو إلى الحوار والتواصل مع الحكومة الجديدة. ويفسر المراقبون هذا التحول الإيجابي في موقف عدد من قيادات طالبان من الحوار ومحادثات السلام مع الحكومة الحالية، بالعديد من التغييرات التي حدثت على المستوى الداخلي في أفغانستان والمنطقة، وفي مقدمتها ما يلي: أولاً، عدم قدرة طالبان بعد أربعة عشر عاماً من الحرب والعمليات على السيطرة الكاملة على ولاية واحدة في أفغانستان، بل وتعذر إمكانية ذلك في المستقبل، خاصة بعدما بلغ عدد الجيش الأفغاني نحو 350 ألف عنصر مجهز. وبالتالي، فإنه قد أصبح من المنطقي أن تبحث الحركة عن سبل لإنهاء حالة الحرب والانخراط في العمل السياسي، ولكن بشكل يحفظ ماء الوجه. ثانياً، تنامي نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية داعش في أفغانستان، والنظر إليه من جانب كثير من قيادات حركة طالبان باعتباره العدو الحقيقي في البلاد، وبالتالي، النظر في إمكانية التحالف مع الحكومة الأفغانية لمحاربة هذا العدو المشترك. فظهور داعش إلى جانب طالبان يعني ببساطة، بالنسبة إلى الحركة، انتحاراً سياسياً لها في هذه المنطقة، وتضاؤل نفوذها مقارنة بتنظيم داعش الذي يملك المال والسلاح المتطور. كما أن داعش أعلن قبل شهور عدة أن زعيم طالبان، الملا عمر، لا يملك قدرة سياسية وأنه رجل جاهل لا يتمتع برصيد شعبي. وقد تعزز هذا التوجه المناوئ لداعش داخل الحركة عندما طالب علماء أفغانستان، خلال اجتماع موسع، طالبان بالوقوف إلى جانب الجيش الأفغاني في حربه ضد تنظيم داعش، واصفين التنظيم بأنه خطر يهدد أمن البلاد والمنطقة، ويدخل البلاد في أتون حرب جديدة هي في غنى عنها. ثالثاً، التحول في موقف باكستان، ذات النفوذ التاريخي على حركة طالبان، نحو ممارسة ضغط سياسي على الحركة في اتجاه تحقيق المصالحة، خصوصاً بعد أن شن الجيش الباكستاني عملية ضرب عضب ضد قادة طالبان باكستان ومسلحيها في مناطق القبائل لتمشيطها وفرض السيطرة الحكومية عليها. وفي الوقت نفسه، دأب الرئيس الأفغاني الجديد أشرف غني، منذ توليه السلطة في سبتمبر/أيلول 2014، على إقناع القيادة الباكستانية بتغيير سياساتها والمساعدة على إحضار طالبان إلى طاولة المفاوضات، حتى إنه طلب الوساطة من الصين لإقناع باكستان، وحاول إغراء الأخيرة من خلال التوقيع على مذكرة تفاهم بين جهازي المخابرات الأفغاني والباكستاني من أجل تبادل المعلومات، كما قام بسلسلة زيارات متوالية إلى إسلام آباد التقى فيها رئيس الوزراء نواز شريف وقائد الجيش الباكستاني الجنرال راحيل شريف. غير أن اللقاء التاريخي الأخير بين ممثلي الحكومة وطالبان في باكستان لا يعني، وبكل تأكيد، أن عملية ولادة نظام جديد ومستقر وآمن في أفغانستان قد انتهت. حيث يؤكد كثير من المراقبين وجود انقسامات حادة داخل حركة طالبان بشأن التفاوض مع الحكومة الأفغانية الحالية، مما سيؤدي، على الأرجح، إلى كبح جماح أي مبادرة محتملة للسلام في البلاد، مشيرين إلى أن القيادة المركزية لحركة طالبان، التي يطلق عليها اسم مجلس شورى كويتا، نسبة إلى مدينة في جنوب غرب باكستان تتمركز فيها قيادات الحركة حالياً، لم تعلق على نتائج هذا اللقاء، حتى كتابة هذه السطور. ومن ناحية ثانية، توجد مخاوف متعددة من التداعيات المحتملة لبدء المفاوضات الرامية إلى تحقيق مصالحة وسلام بين الفرقاء في أفغانستان. فمن جهة، توجد خشية من انشقاق بعض المنتمين إلى حركة طالبان، وانضمامهم إلى تنظيم "داعش"، لاسيما أن هناك العديد من القيادات الميدانية نقضوا ولاءهم لزعيم التنظيم الملا عمر، وأعلنوا مبايعتهم لزعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي. ما يعني أن المفاوضات بين الحكومة الأفغانية وطالبان، حتى إن نجحت، فإنها لا تعني إنهاء الأزمة الأمنية بصورة كاملة. ومما يؤكد هذا الأمر ما حدث في بداية الربيع من العام الجاري، عندما شارك نحو خمسة آلاف مقاتل من داعشإلى جانب مقاتلي طالبان في معركتي ولاية قندوز وولاية بدخشان، في أكبر وأعنف هجوم لهم على نقاط حكومية ومقرات تابعة للجيش الأفغاني في هاتين المنطقتين القريبتين من الحدود الروسية. ومن جهة ثانية، ثمة خشية أخرى وهي أن حركة طالبان قد تخسر شعبيتها أكثر إذا فشلت المفاوضات مع الحكومة الأفغانية الحالية، إذ إن عودة طالبان إلى طاولة المفاوضات حدثت نتيجة ضغوط باكستانية، وهو ما يعزز مقولة أن الحركة تنشط في أفغانستان لمصلحة باكستان، خصوصاً أن القوى المناوئة لها كداعش تدّعي أنها تحارب طالبان لأنها تعمل لمصلحة الاستخبارات الباكستانية. ومن ناحية ثالثة، ترى العديد من الدوائر العسكرية والأمنية استحالة انخراط حركة متشددة وملتزمة بحمل السلاح مثل حركة طالبان، في مفاوضات سلام مبنية على الجهود الدبلوماسية لوقف حمام الدم في أفغانستان. ويؤكد أنصار هذا الرأي أن أيديولوجية طالبان ترفض أساساً الاعتراف بالنظام السياسي الذي نصبته الولايات المتحدة ودول حلف الناتو بعد الحرب التي انطلقت في أكتوبر 2001 لإطاحة حكم طالبان، وهو ما سيفشل هذه المفاوضات بالتأكيد. وفي ضوء كل ذلك، يمكن القول إن الساحة الأفغانية تبدو مفتوحة على كل الاحتمالات. حيث يعد اللقاء في موري بين الفرقاء الأفغان خطوة مهمة واختراقاً غير مسبوق نحو إجراء مفاوضات ناجحة ومستمرة للمصالحة تقود إلى تحقيق السلام والأمن المفقودين في أفغانستان. ومما يعزز من التفاؤل بشأن هذا اللقاء، أن عرقلة عملية السلام في أفغانستان لم تعد في مصلحة أحد الآن في ظل تنامي نفوذ تنظيم داعش الإرهابي في المنطقة. والدليل على ذلك التعاون الكبير الذي أبدته دول مثل باكستان والصين والولايات المتحدة وغيرها لإنجاح هذا اللقاء. وفي الوقت نفسه، لا يبدو أن عملية المخاض لولادة نظام جديد في أفغانستان سوف تكون سهلة وميسورة في المدى المنظور. فهذه العملية قد ينجم عنها جنين ميت، لا قدر الله، إذا ما استمرت الانقسامات الحالية داخل حركة طالبان بين حمائم الحركة الذين لجأوا إلى باكستان وقطر، وصقورها المقاتلين الذين بقوا في أفغانستان، وإذا ما فشلت القيادة الأفغانية الحالية في تقديم ضمانات سياسية وأمنية مقبولة من جانب قيادات الحركة. *خبير الشؤون الدولية والآسيوية فيمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية