منذ أن هبت رياح الحراك السياسي على المنطقة العربية في أواخر العام 2010، لمس المراقب للمشهد السياسي العربي حضورا قويا لدعوات الوحدة الوطنية. فقلما خلت نتائج حوار وطني من تركيز شديد على أهمية تمسك الأطراف كافة بقيم الوحدة الوطنية، وأسسها. بالقدر ذاته لم يشهد المسرح السياسي العربي اختراقا لتلك القيم والأسس أسوأ من ذلك الذي مارسه دعاتها والمنادين بضرورتها بحقها. يكشف مثل هذا السلوك، أحد الأسباب المهمة الكامنة وراء الإخفاق في تحقيق الوحدة الوطنية في الأقطار العربية التي تعاني من تمزق نسيجها الاجتماعي، رغم الدعوات المتصاعدة في صفوف المكونات المجتمعية برمتها، سواء تلك المتناحرة، أو حتى تلك التي ينظم العلاقات التنسيقية فيما بينها نوع من العقد السياسي المتفق عليه. وبين ثنايا ذلك السلوك يختفي نوع من النفاق السياسي الذي تصر على سلوكه القوى السياسية الأكثر حضورا فوق مسرح ذلك المشهد، ويعري في الوقت ذاته عدم مصداقية الكثير ممن يرفعون شعار الوحدة الوطنية عاليا، ويرددونه بأعلى أصواتهم. ولعل هذا ما يدعو إلى تكرار معالجة هذه المسألة من أجل ترسيخ قيمها الحقيقية. ومن الضرورة بمكان هنا التأكيد على بعض المسلمات التي غالبا ما تغيب عن أذهان بعض قادة القوى السياسية العربية، أو يغيبها هؤلاء، بقصد يخفونه تحت أردية الشعارات البراقة التي لا يكفون عن تكرارها. ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أنه، بخلاف ما يعتقده البعض أو يروج له، ليست الوحدة الوطنية وصفة طبية معدة سلفا لا يتطلب الأمر أكثر من تناولها بشكل دوري، وفي المناسبات الوطنية أو عند بروز الأزمات. كما أن تحقيقها لا يتم من خلال قرض القصائد، ولا تلحين الأغاني، التي تكتظ بها برامج الفضائيات، ولا تحويلها إلى عناوين براقة في مؤتمرات وورش عمل متكررة، لا تتجاوز تأثيراتها جدران المباني التي تنعقد تحت سقوفها تلك الفعاليات، وطنية كانت أم جهوية. كما انها لا يمكن أن تتجسد بشكل حقيقي مبدع وخلاق ومجد بفرضها قسريا، أو من خلال قرارات فوقية. وأكثر من ذلك لا يمكن أن تكون الوحدة الوطنية صفقة سياسية تكتيكية تحقق الفوز لفئة أو مجموعة فئات على أخرى في المجتمع ذاته. وأكثر من ذلك، إن الوحدة الوطنية في المجتمعات المتقدمة، لا تطرح نفسها بديلا للتجمعات الأخرى، إثنية كانت تلك المجموعات، أم دينية، أو فكرية. وبالتالي فمن ينجح في ترويج شعار الوحدة الوطنية، ويعمل من أجل تحقيقها، يدرك مسبقا أنها ينبغي ان تقوم على إرادة شعبية جامعة كي تكون الحاضنة الطبيعية الدافئة القادرة على امتصاص أي شكل من أشكال الاختلافات الثانوية، وتذويبها في بوتقة وطنية شاملة، تضع المصالح العليا للأمة فوق كل اعتبار، دون مساس بكرامة أو قيم الفئات المتخالفة التي تعيش في كنف وطن واحد. ويرصد طالب الدراسات العليا صخر محمّد المحمّد، في أطروحته التي يشرف عليها الدكتور، عبد العزيز المنصور في بحثه التفصيلي بشأن الوحدة الوطنية، الذي حمل عنوان دور الحوار في الوحدة الوطنية، تاريخ تطور هذا مفهوم الوحدة الوطنية من الفترة الإسلامية حتى العصر الحديث. فهي، كما يقول المحمد، عند أبو حامد الغزالي تتحقق من خلال الحاكم (الإمام)، لأنه هو أساس وحدة الأمة، وأنه محور اتفاق الإدارات المتناقضة، والشهوات المتباينة المتنافرة من خلال جمعه لها حول رأى واحد. وهي، ربما تكون مخالفة لوصف ميكافيللي، الذي يرى في كتابه الأمير، كما ينقل عنه المحمد، ارتقاء الحاكم في الدولة إلى درجة القداسة، لأنه محور الوحدة الوطنية في الدولة، وإذعان المحكومين لهذا الحاكم وخشيته من ضرورات هذه الوحدة، لأن الأخذ بآرائهم سيؤدى إلى الفوضى والاضطراب، لأنهم لا يمكن أن يكونوا طيبين إلا إذا اضطروا لذلك، قبل أن يصل إلى هيغل، الذي يعتبر الوحدة الوطنية طاعة القانون في إطار الحرية الممنوحة منه على أن يتوافق القانون مع منطق العدل الذي هو منطق التاريخ، ودون ان يغفل مفهوم لوك للوحدة الوطنية، والتي هي قيام سلطة عامة يقبل بها جميع أفراد الشعب وفق إيراداتهم الحرة، فتكون السيادة للشعب، ويجب أن يأتي الحكام من الشعب، وأن تتطابق مصالحهم وإيراداتهم مع مصالح وإيرادات الشعب. لكن يأتي، كما يورد المحمد، جان جاك روسو كي يضفي بعدا جديدا للوحدة الوطنية من خلال ربطها بمقاييس ومقومات العقد الاجتماعي، فهي تكتسب شكلها النهائي، عند روسو، من خلال قيام عقد اجتماعي بين الشعب والنظام السياسي القائم، بحيث يتوحد الشعب في وحدة قومية مصيرية، وفى إطار من مسؤولية مشتركة يطيع فيها الفرد الحكومة، التي هي نظام اجتماعي ارتضاه عن طواعية واختيار، والربط بين السيادة في توحيد الشعب وقيمه، والتعبير عن إرادته المندمجة في الإدارة العامة، التي هي محصلة إيرادات الأفراد، والتي تختلف في مجموعها عن الإيرادات الفردية. وعلى المستوى العربي، وإذا تجاوزنا تعريفات العديد من المفكرين والسياسيين العرب، من أمثال: محمد سليمان الطماوي، وجواد بولس، وعبد العزيز الرفاعي، ومحمد عمارة، نجد إشارة يوردها الأستاذ المحاضر ورئيس المجلس العلمي لكلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية، جامعة باتنة الجزائر مسعود فلوسي، وتكتسب أهمية خاصة في ميدان الوحدة الوطنية، كونها جاءت على لسان المفكر، والقائد الجزائري عبد الحميد بن باديس الذي يؤكد على أن أسباب اللقاء بين الجزائريين من خلال اجتماعهم في موطن واحد، بل يضيف إلى ذلك العمل على غرس حب هذا الوطن في النفوس حتى تشب على الإحساس بالواجب تجاهه وتعمل مشتركة متعاونة على حمايته والحفاظ عليه، (مضيفا)، إنما ينسب للوطن أفرادُهُ الذين ربطتهم ذكريات الماضي ومصالح الحاضر وآمال المستقبل، والنسبة للوطن توجب علم تاريخه، والقيام بواجباته، من نهضة علمية واقتصادية وعمرانية، والمحافظة على شرف اسمه وسمعة بنيه، فلا شرف لمن لا يحافظ على شرف وطنه، ولا سمعة لمن لا سمعة لقومه.