ترك الشاعر والفارس العربي دريد بن الصمة بيتًا من الشعر ظل حتى اليوم نابضًا بالمعاني والتفسيرات والتأويلات، لقد قال في رثاء أخيه عبد الله: ومَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّة إِنْ غَوَتْ... غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّة أَرْشُدِ مناسبة هذا البيت أن دريد وأخاه عبد الله خرجا على رأس جيش في غارة على غطفان فاستباحوا حماها وسلبوا منها إبلاً وخيلاً ومالاً كثيرًا، ثم فروا، وعندما وصلوا مكانًا ليس ببعيد عن خصومهم اسمه اللوى، أمر أخوه عبد الله الجيش بالاستراحة ثم بدأ بتوزيع الغنائم، لكنّ دريد بحكمته المعهودة نهاه عن ذلك، وحذره من أن غطفان وحلفاءها لن تتركهم يفلتون، وأن عليهم مواصلة الطريق حتى يبلغوا مأمنهم، لكّن أخاه رفض، وحدث ما كان يتوقعه فقد أغارت عليهم فزارة وقتل عبد الله وجرح دريد. وهو القائل: أمَرْتُهُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِوَى... فلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُشْدَ إلا ضُحَى الغَدِ فلمَا عَصَوْني كنْتُ منهُمْ وقد أرَى... غِوَايَتَهُمْ وأنَني غيرُ مُهتَدِ ومَا أنَا إلا من غَزِيَة إنْ غوَتْ... غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزيَة أَرْشُدِ ذهب دريد بن الصمة، ولم يخلد من تراثه أكثر من هذا السجال الشعري، فالرجل الذي عُرف شاعرًا وفارساَ خاض أكثر من مائة غزوة مظفرة، انتهى نهاية بائسة حين ظاهر قومه المشركين في غزوة حنين التي وقعت بين المسلمين وقبيلتي هوازن وثقيف سنة 630 للميلاد وقتل بعد المعركة. في هذا البيت الذي أصبح «حالة» عربية مستحكمة، كان فيه دريد بن الصمة صادقًا مع نفسه، فهو يكشف أن الإنسان العربي ابن قبيلته وجماعته، حيث يذوب الفرد بالكامل في الجماعة. كما يكشف أن القبيلة كروح وهوية متجذرة عميقًا في الوجدان إلى درجة يمكنها أن تلغي شخصية الفرد واستقلاله. كان دريد يتحدث عن واقع عربي ما زال باقيًا يشهد نهاية الفرد أمام قيام سلطة القبيلة، وهو يختلف تمامًا عن الجماعة باعتبارها التمثيل العام الأكثر اتساعًا للأفراد «الديمقراطية». فثمة فارق جوهري بين القبيلة كتنظيم مجتمعي مغلق يقوم على العصبية، وبين الديمقراطية كنظام تمثيلي يقوم على الحرية والمساواة والقانون. في كتابه المهم «الخطيئة والتكفير»، يرى الناقد السعودي د. عبد الله الغذامي في هذا البيت الشعري أنه «ينم عن روح ديمقراطية».. فقد نصح ابن الصمة قومه، لكنهم لم يصغوا لكلامه، فما كان منه إلا النزول على رأي الجماعة، معبرًا عن النفس السوية حيث رضي أن يعرّض نفسه معهم للخطر إذ لم يقتنعوا، وهو النموذج الديمقراطي الذي يعبر فيه المرء عن ذاته، أما جماعته وإن لم يستطع إقناعهم يبقى معهم وإن تعرض للخطر. المعضلة ليست في تفسير النصّ الشعري أو تأويله، بل في المفهوم الذي تركه في الثقافة العامة للناس، ذلك المفهوم يقوم على انصهار الفرد في جماعته القبلية وإلغاء أي تمايز عنها، حتى لو كانت أفكارها وآراؤها تؤدي نحو الانتحار الجماعي. المصيبة أن هناك من ينفخ في هذه الثقافة ويحرض عليها كل حين، ثم يتساءل ببلاهة: لماذا لا يميز فلان نفسه عن جماعته؟، ولماذا لم تبرز أصوات معارضة للتوجهات العامة للجماعة..؟