أظن أنني لن أكون مخطئا لو قلت بأن للاختلاف الناتج عن التنوع العرقي والإثني والديني والثقافي في المجتمعات أثرا إيجابيا يساعد على خلق نزعة إنسانية تتوق للكمال وتمهد لبلوغ الحقيقة من خلال وجهات نظر متعددة. كما أنني لا أشك في أن الإيمان بثراء الاختلاف في السيرورة الاجتماعية هو طموح ثقافي وحضاري جمعي يصل بنا في النهاية إلى الإقرار بالتعددية. ولكي يكون الاختلاف شجرة وارفة الظلال ومثمرة في المجتمعات ينبغي أن تدعم بمجموعة من القيم الأخرى، وهي من رصيد الإنسانية التي أُجترحت عبر المنعطفات التاريخية الكثيرة، ويأتي في مقدمة هذه القيم في نظري قيمتان شقيقتان التسامح والتآخي. كثير من القيم الأخرى، في تصوري، تتولد من هاتين القيمتين المتلازمتين، ولن يكتب لها النجاح والبروز في البيئة الاجتماعية طالما عانت هاتان القيمتان من الضعف، وطالما لم تكلل جهودنا سوية في جعلهما سلوكا يوميا ممارسا بين الناس. فمثلا الحوار لا يمكن أن ينشأ وينمو كأداة راقية لحل النزاعات وتجاوز الخلافات في الرؤى إلا في مجتمع استقر أفراده على الأخذ بمنحى التسامح حتى أضحى عقيدة جماعية مشتركة تحضن الاختلاف وتديره لتصرفه عامل قوة هيكلية للمجتمع المتسامح، كما لا يمكن للحوار أن يكون أسلوب تفاوض وتواصل فعال إلا إذا صار التآخي ضرورة للاستدامة فيه. وما المجالس التمثيلية في هذه المجتمعات إلا التعبير الدال والتجسيد الصادق لكل ذلك. نتيجة لارتفاع الحس الطائفي وبروزه ممارسة لدى المعبئين مذهبيا في بعض من مجتمعاتنا الخليجية، يقفز التساؤل الآتي: هل مجتمعاتنا الخليجية هي الأكثر من غيرها حاجة إلى أن يكون التسامح أساسا في تعاملاتها؟ الإجابة عن هذا التساؤل هي أن المجتمعات الإنسانية كافة في حاجة إلى هذه القيمة الإنسانية لتيسير التعامل داخلها وتسييره، ولا توجد مجتمعات تستغني عن التسامح في يوميات تعاملاتها. في التاريخ المعاصر، ودع عنك بعيده، شواهد كثيرة تؤكد على أن بغياب التسامح تدب الفوضى ويسود العداء والاحتراب. فأينما وليت وجهك في عالمنا العربي الآن ستجد أكثر من مثال يتحدث عن نفسه، ويصيبك بالغثيان. في إطار ما أسلفت، أرى أن أشد ما يحتاجه مجتمعنا البحريني اليوم هو توسيع هامش التسامح بين مكوناته الاجتماعية بصفتها قيمة إنسانية يتعذر الحديث عن عيش مشترك من دونها إذا أردنا الانتقال من بؤس الظرف الزمكاني الذي وضعنا أنفسنا فيه منذ ما يقارب الخمس سنوات إلى الزمكان الذي ننشد ونتوق إلى أن نكون فيه، ونعمل على تأثيثه بالقيم الإنسانية المنجزة. فبالقدر الذي يكون فيه الوطن بحاجة إلى عقول مختلفة ومنفتحة فإنه أيضا بحاجة إلى قلوب على حب الوطن مشدودة مؤتلفة. لهذا وجدت أن الكتابة عن التسامح والتآخي، في ضوء الدعوة التي تفضل بها سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة نائب رئيس مجلس الوزراء، رئيس المجلس الأعلى لتطوير التعليم والتدريب إلى تعزيز قيم المواطنة ونشر ثقافة التسامح والتآخي بين الطبلة، من خلال تطوير المناهج الدراسية والأنشطة المدرسية لتحقيق هذه الغاية الوطنية، سانحة للحديث عن بعض ما تبذله وزارة التربية والتعليم من جهود- أحسب نفسي مطلعا عليها -لتعزيز هذه القيمة الإنسانية، ولتطارح بعض مما أتصور أنه واجب، وعرض ما يتعين على المؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع الدينية والمدنية فعله في هذا الإطار. صحيح أن المجتمع البحريني مثل سائر المجتمعات الإنسانية يبقى دائما وأبدا في حاجة إلى استمرار العمل على القيم التربوية الكبرى التي تحفظ كيانه مستقرا وتبني، مثل التسامح والتآخي ونبذ العنف والتمييز، وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان، أما القول بأن وزارة التربية والتعليم لا تلتزم بذلك فهو الافتراء عينه. وهو ادعاء غير مقبول، لأنه لا يتسق وواقع الحال. فنظرة سريعة على الأحداث المذهبية الفاقعة التي عصفت بالمجتمع البحريني في عام 2011، تؤكد لنا بأنه لولا هذه الجهود الجبارة والعمل المستمر في غرس هذه القيم لكانت هذه الأحداث أشد شراسة ولأسهمت في انزلاق المجتمع إلى ما لا تحمد عقباه. فالعنف الذي شهده مجتمعنا البحريني اقتصر على مجموعة نالت حظها من التلغيم المذهبي من خلال المناهج الخفية من خارج رحاب المدرسة البحرينية، وتحديدا من بعض المساجد والمآتم والجمعيات الأهلية والسياسية في عمومها، المرخصة وغير المرخصة. فالقول بمسؤولية المناهج الخفية عن التطرف الملاحظ، وجنوح الشباب إلى العنف قول لا يعتريه لبس ولا تطاله شبهة. بل قل إن وزارة التربية ومن خلال مناهجها الوطنية تبذل الكثير من أجل التصدي إلى ما تنتجه المناهج الخفية التي تتبناها بعض من الجهات العقائدية والدينية التي تعمل في المجتمع البحريني من خلال مؤسساته الدينية والمدنية. فملامح الخريج التي تؤكد عليها أدبيات الوزارة وتحرص على تحقيقها، ونجدها، كمتابعين، هوسا ومحركا عند منتسبيها، هي بناء مواطن يعتز بولائه لمملكة البحرين ذات التنوع الثقافي، وبانتمائه العربي الإسلامي وبانفتاحه على الحضارة الإنسانية في عمومها، فهو مواطن بحريني بحق يتفاعل إيجابيا مع القضايا المتصلة بالمواطنة وحقوق الإنسان، ويتخذ مواقف واعية تجاهها قائمة على مبادئ التعايش والتقبل والتسامح والعمل المشترك. والدور نفسه ينبغي أن تقوم به باقي مؤسسات الحكومة الأخرى إعلامية كانت أو شبابية، هذا دون التغافل عن دور مؤسسات المجتمع المدني التي عليها مجتمعة أن تتموضع في سياق التغيرات الكبرى التي يشهدها عالمنا اليوم وواقعنا المحلي أو الإقليمي، فعليها كلها مجتمعة أن تدرس خصائص هذا السياق لتدعم أو تعدل مسارات سياساتها وخطاباتها وأدوارها وتعيد النظر في إرثنا الشعبي المشترك الناضح تسامحا وتعايشا وتآزرا وإيمانا ببحرين واحدة، متنوعة وواعدة ومتوثبة إلى الأفضل. الخارجون على القانون والذين يمارسون صنوفا شتى من العنف والأعمال اللاوطنية موجودون فعلا وفي كل آن وحين، لكن الحد منهم، ومحاولة استمالة الكثير منهم إلى حياض الوطنية هي المهمة المنوط بالتربية والتعليم إنجازها اليوم، غير أن ذلك لا ينبغي أن يغفل دور المؤسسات الدينية والمدنية حكومية وأهلية. ما تقدم يقودنا إلى القول بأن مهمة غرس قيمتي التسامح والتآخي في المجتمع تعود إلى أطراف عدة، ووزارة التربية والتعليم أحد هذه الأطراف. كما ينبغي التأكيد على أن ضعف مراقبة منابر الخطابة، والتي هي في اعتقادي الشريك المثالي في إنجاح هذه المهمة، أدى إلى خفوت بريق التسامح والتآخي من أن يكونا ماثلين سلوكا وممارسة في مجتمعنا البحرين كما كانا في السابق، إذ وجدت خطابات العنف والتحريض والتعصب سبيلها إلى أفئدة غيب سلطان المقدس عقولها فتحولت بغسيل دماغ محبك فيروسات دمار لا منجي منه إلا التركيز في ترشيد الخطاب الديني والنأي به عن الشأن العام، ودعم جهود وزارة التربية والتعليم فيما تبذله من جهد لتقديم أمصال المواطنة الكفيلة بصد وباء التطرف. بدلا من ذمها أو الوقوف على ربوة حياد كاذب لا أراه إلا أسوأ أشكال التواطؤ مع المخربين، فالصمت إزاء الدمار هو الدمار عينه.