رمضان نعمة من الله جل وعلا، حبى الله سبحانه بها هذه الأمة المباركة. ولست هنا في مقام ذكر فضائله العظيمة، ولكن لتأمل القدرة التي وضعها الله تعالى فيه لتغيير الناس وإطلاق الخير الذي بداخلهم، وهو برهان عملي واضح على بطلان نظرية الشر المطلق، ووجود الخير العظيم في النفوس، وأن المواسم والظروف والمواقف تأتي لتستخرجه من مناجم النفس البشرية. وليس هذا من باب الوعظ أو التنظير؛ إنما حقائق مشاهدة نراها ناصعة كل يوم، تظهر جلية في التسابق للعبادات وأنواع الطاعات، وضبط النفس وحفظ اللسان والحلم والإيثار، فضلاً عن التكافل والإنسانية اللتين يمكن لمن وفقه الله لزيارة بيته الحرام لأداء عمرة رمضان أن يراهما في أبهى صورهما؛ فهذا مسؤول كبير يشارك إفطاره مع عامل فقير، وهذا رجل من علية القوم يقف على مدخل الحرم ليوزع الإفطار على الداخلين دون اهتمام زائد بملابسه وهندامه لانشغاله بما هو أهم، ألا وهو تزكية النفوس وتزيين الأعمال بدلاً عن تزيين الأبدان. وهنا امرأة تملأ أكواباً من ماء زمزم، وتقف عند المطاف لتوزعها على المعتمرين والطائفين. ولعل الجانب الإنساني التكافلي أحد أهم غايات الصوم، وأثره عظيم في تطهير الأنفس من أدرانها وشفائها من أمراضها كالكبر والإعجاب بالنفس والحقد. ويأتي ليحقق الأخوة الاسلامية في أبهى صورها، بالرغم من بساطة الأعمال والأفعال، وكما قيل: البساطة: هي قمة التعقيد فربما أبسط فعل يثمر عن أعظم النتائج، ولا يبهرنا رمضان بكثرة الخير فقط، بل بتنوعه والإبداع في فعله والاهتمام بتفاصيله وعدم احتقار شيء من المعروف مهما صغر في أعين البشر المادية. وما يلبث الشهر أن يمضي مسرعاً ليأتينا العيد بفرحته المشوبة بالحزن، حزن على فراق الشهر بسكينته وطاعته، وحزن على فراق ناس رمضان؛ فبعضهم باقون بأجسادهم فقط، أما طبائعهم فتتغير تدريجياً ليعودوا كما كانوا بقية العام، وقد يرجعون مرة أخرى بعد أحد عشر شهراً؛ وبعضهم، وهم نادرون، سيبقون معنا بأجسادهم وأخلاقهم وإيمانهم، وبعضهم ذهبوا ولن يعودوا ليدركوا رمضان القادم. اللهم أجبر كسرنا على فراق شهرنا وعلى فراق ناس رمضان.