علي جرادات الآن، بعد عشرين عاماً ويزيد من المفاوضات الثنائية المباشرة مع الكيان الصهيوني والرهان الرسمي الفلسطيني والعربي على الولايات المتحدة راعي الكيان والمفاوضات معه، لم يتبق من أوسلو سوى أرباح الاحتلال واستباحته لكل ماهو فلسطيني. هذا يعني أن قادة الحركة الصهيونية وتجسيدها المادي إسرائيل أغلقوا باب التسوية السياسية للصراع لدرجة إيصال ما يسمى حل الدولتين إلى طريق مسدود بعد اشتراط التوقيع عليه بانتزاع الاعتراف بالدولة اليهودية التي باتت خارج الممكن التاريخي اتصالاً بمعطيات سياسية وحقائق موضوعية، أولاها أن نحو 6 ملايين فلسطيني يعيشون الآن في فلسطين التاريخية، وأن قرابة 6 ملايين لاجئ اقتلعوا في عملية تطهير عرقي بشعة عام 48 ونزوح قهري عام 67، ما انفكوا يتمسكون بحقهم في العودة الذي عمدوه بكفاحهم الوطني وتضحياتهم ودمائهم رافضين التوطين وجحيم التشرد. أما ثانيتها فتتمثل في أن المشروع الصهيوني لم يستقدم إلى فلسطين سوى نحو 6 ملايين مستوطن يهودي، أي ثلث يهود العالم فقط. هنا، انبرت فرنسا من موقع نائب الفاعل للولايات المتحدة وأطلقت مبادرة لتجديد أوهام حل الدولتين، لكنها عادت وتراجعت عنها بعد شهر على إطلاقها بضغط من الكيان وحليفه الثابت الولايات المتحدة التي تدعم مطلبه في دولة يهودية لا إمكانية لإقامتها لا في عموم فلسطين، ولا حتى في مناطق 48 التي يتشابك المجتمع الفلسطيني العربي فيها مع الكيان الاستيطاني اليهودي في الاقتصاد والخدمات وسوق العمل وخطوط المواصلات والثروة المائية، تحت سيطرة العنصرية الصهيونية بسياساتها وممارساتها التوسعية العدوانية، ما يجعل الخريطة السكانية هنا تشبه الخريطة السكانية في جنوب إفريقيا قبل سقوط نظام الأبارتهايد. فضلاً عن التشابك القائم من موقع الإلحاق بين الاقتصاد الإسرائيلي واقتصاد قطاع غزة والضفة التي قام الاحتلال في السنوات الأخيرة بتشظية سوقها وربط شمالها وجنوبها ووسطها، كل على حدة، بالاقتصاد الإسرائيلي، لاسيما الأيدي العاملة والتجارة وطرق المواصلات والموانئ، بينما تم ضم القدس وسلخها عن الضفة، علاوة على التشابك الذي أحدثه جدار التوسع والضم العنصري الذي يقع وراءه 40% من مساحة الضفة بما تحويه من قرى، فيما معظم شبكات المياه والكهرباء والشوارع الرئيسية في الضفة شبكات مشتركة تستخدمها التجمعات السكانية الفلسطينية والتجمعات الاستيطانية اليهودية، عدا عن أن 80% من مياه الضفة باتت تحت سيطرة الاحتلال لتلبية 40% من حاجة إسرائيل المائية. هنا يثور سؤال: ما العمل؟ إزاء واقع أن لا إمكانية واقعية لإقامة دولة فلسطينية على حدود 67 إلا برحيل الاحتلال، بمظاهره السياسية والعسكرية والاقتصادية والاستيطانية، وهو ما يرفضه قادة الكيان، بدعم أمريكي، على اختلاف أحزابهم، وإزاء واقع أن لا إمكانية تاريخية لدولة يهودية إلا بإبادة الشعب الفلسطيني وإقصائه من المكان والزمان بالمزيد من مجازر التطهير العرقي التي فشل ما ارتكب منها حتى الآن في أن يحول الفلسطينيين إلى غبار الأرض، حيث انبثقوا من تحت رماد النكبة واكتسبوا هوية وطنية كفاحية في سبيل قضية عادلة، بينما فشلت اتفاقات (كامب ديفيد المصرية، وأوسلو الفلسطينية، ووادي عربة الأردنية)، في تطبيع علاقات الكيان مع الشعبين المصري والأردني، عدا أن الشعب الفلسطيني لم يُسقط راية النضال ضد احتلال استيطاني إقصائي لم ينجح في شطب وجوده وما يستولده من إرادة مقاومة تتطلع نحو أهداف أصيلة وجوهرية. فمساعي الأسرلة للتجمع الفلسطيني في 48 والتفكيك للتجمع الفلسطيني في 67 والتوطين للاجئين، إنما تصطدم بعناصر الهوية والذاكرة التاريخية والحلم المشترك وموجات النضال التي لا تتوقف. ما يعني أنه محض خداع مواصلة الادعاء بأن الشعب الفلسطيني الذي فتته الغزو الصهيوني ويوحده سياق تاريخي مديد ليس بنية واحدة. هنا ثمة عنصرية صهيونية سياسية أيديولوجية تجثم على صدر فلسطين شعباً ووطناً، لكنها لم تقوَ، ولن تقوى، على إلغاء حقائق الحياة، ولم تنتج، ولن تنتج، غير تأبيد الصراع وتأجيجه وإعادة إنتاجه، لأن رفضها الاعتراف بما حل بالشعب الفلسطيني من نكبة ومذابح وتنكيل واستباحة إنما يؤكد انكشاف كذبة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض التي اخترعها البريطانيون وكررها هرتزل بعدهم بعشرات السنين. عليه، وللإجابة عن سؤال ما العمل؟ فإن الخطوة الانعطافية لاستئصال أسباب الصراع هي عودة اللاجئين إلى ديارهم، بوصفهم المادة الأساسية لحركة التحرير الفلسطينية والحلقة المركزية في البرنامج الوطني الفلسطيني، والضمانة الوحيدة لسلام يخدم جميع الأطراف، بما فيها الدول الغربية التي تسببت بنكبة الشعب الفلسطيني. أما مطلب الحماية الدولية المؤقتة فخطوة انتقالية تمهد للخلاص من الاحتلال في هذا الدرب الطويل، بما يستدعيه ذلك من صمود وبناء مجتمعي فلسطيني شامل ومقاوم في إطار عملية نضالية مديدة تترابط جدلياً بنضال شعبي عربي. لأن من شأن إحقاق حق العودة أن يصحح الخطأ التاريخي، وأن يخلق مناخات ثقافية وسياسية جديدة تحرر اليهود، داخل الكيان وخارجه، من العنصرية الصهيونية، كما تدعو حتى أصوات يهودية تتخذ من تجربة جنوب إفريقيا نموذجاً ومرشداً، بعد ثبوت أن مشروع التسوية الجاري قد وفر للمشروع الصهيوني الغطاء لمزيد من التوسع والهجوم، وأن كل ما يقال عن دولتين لا يعدو كونه وهماً وخداعاً لتكريس إسرائيل العنصرية العدوانية التوسعية بما يصاحبها من استباحة وتقتيل جماعي، وتسمين مستعمرات، ومصادرة أراض، لم تبقِ بيد الفلسطينيين سوى نحو 15% من عموم مساحة فلسطين، فيما لم يحصد اللهاث وراء حل تفاوضي لإقامة دولة فلسطينية على حدود 67 سوى معازل فلسطينية جائعة ملحقة بالسوق الإسرائيلية يجري تسييجها بأسوار إستيطانية، وجدران تفصل شمال الضفة عن جنوبها، وتفصلها عن القدس التي جرى ضمها قانونياً وعملياً، بينما تتباعد بقايا الضفة عن غزة، مع ما لذلك من استحقاقات أمنية، ومساومات سياسية على حق العودة وحقوق فلسطينيي 48، تمكِّن المشروع الصهيوني من احتواء النضال الوطني الفلسطيني، وتحقيق انتصار استراتيجي ثالث يعزز انتصار إنشاء إسرائيل عام 1948، وانتصار الاعتراف بوجودها وأمنها في اتفاق أوسلو عام 1993 بكلمات شمعون بيريز مهندس هذا الاتفاق. ali-jaradat@hotmail.com