"عمر" طالب في الصف الثاني الثانوي في مدرسة تحفيظ القرآن الكريم في الرياض، يبدو أن حملة التوعية التي قادتها وزارة الداخلية قد لامست الوطنية العظيمة في قلبه الفتيّ؛ فاتصل ببرنامج ديني ليخبر الشيخ فيه عن زمالته لمجموعة من الدواعش الصغار في المدرسة، وكيف أنهم يكرهون الوطن والحكومة. في الواقع، أن الفتى الصغير لم يستطع أن يكمل جملته حيث تلقى هجوما من المذيع والشيخ الضيف جعله لا يكمل ولا يوضح شهادته، وأخذ المذيع الأشد غضبا يصرخ "لا تعمم" حتى ارتجف صوت الفتى ولم يكمل. أقول: لعلهما فهماه خطأ، فالفتى لم يعمم كما بررا رفض كلامه، بل هو محذر وخائف على وطنه، ويبدو أنه سيستمر في خوفه إلى أجل غير مسمى بعد صدمة الردود التي واجهته، وأتمنى من وزارة الداخلية سماع المقطع والبحث عن عمر، ليس لتكريمه فقط بل سماع شهادته أيضا، فالفتى أشار إلى وضع خطير لا يشك مطلقا معه أن هناك مشروعا إرهابيا بين هؤلاء الطلاب، ونحن في وضع يجب أن يؤخذ معه كل شاردة وواردة بجدية شديدة وليس بتحقير وتجاهل! أعدت المقطع عدة مرات وتساءلت: كم مرة حاول عمر أن يخبر عما رأى ويحذّر، وبرز من برز ليصمته؟ وهل هناك عمر آخر حذّر وتم تصميته وتسكيته؟ كم شابا في بلادنا أخفى ما في صدره خيرا أو شرا لأن هناك من أسكته؟ كم إرهابيا حاول أن يقول شيئا ويخبر عما ينوي فعله وأصمته والده؛ لأنه يريد أن يشاهد المباراة أو آخر أخبار الأسهم. لِمَ تقول كل أسر الإرهابيين إنها متفاجئة؟ هل لأنهم لم يسمعوا أبناءهم أبدا؟! لِمَ الشباب السعودي فقط الذي يتم تفخيخه وتجهيزه ليكون قنبلة كراهية تقتل الحرث والنسل؟ هل لأننا لا نسمع شبابنا ولا نتحدث إليهم إلا بصيغة الأمر والتنبيه والتحذير، ولا نتساءل إن كانوا قبلوا أو رفضوا؟ كما أنه استوقفني أكثر أن عمرا من مدرسة تحفيظ للقرآن، وخريجو مدارس التحفيظ يندر فيهم الإرهابيون؛ لعظم العلم الذي تحويه صدورهم واتساع فكرهم بسبب الدراسات الفقهية التي يناقشونها ويتدارسونها كل يوم، حتى صار من الصعب خداعهم أو العبث في عقولهم، فماذا حدث؟ أذكر في الماضي، كان معلمو التحفيظ يخضعون لاختبارات شتى قبل تعيينهم، ويشترط فيهم العلم والدرجات العالية، فهل لم يعد ذلك مطبقا؛ فتسرب لهؤلاء الصغار من حشا عقولهم بالداعشية والتطرف؟ هل مدرسو التحفيظ اليوم يسيرون على خطى المذيع والشيخ ويصرخون بكل متحدث من حفاظ كتاب الله: اصمت أنت وهو؟ فامتلأت قلوب الصغار بالكره لسلطة المدرسين ومن ثم سلطة الدولة؟ أم أن المدرسة كلها لم تعد تملك القوة المؤثرة، وبليت كتب الفقه وصار القرآن الكريم للحفظ قبل الفهم؛ فلم تعد منارات التحفيظ كما كانت تؤذن للعلم والمعرفة؟ هل تأثير شبكات التواصل أقوى من حصص تاريخ التشريع وعلم التفسير وأصول الفقه التي لطالما علمت صغار مدارس التحفيظ أن الاختلاف رحمة والدين يسر ولا يشادّه أحد إلا غلبه؟ هل أصبح طالب التحفيظ يثق في حساب في تويتر أكثر من معلمه، وأصبح يصدق شخصا يتحدث إليه عن جرائم لم يشاهدها بعينيه، لكن حسابا في تويتر يديره مجرم في إيران أقنعه أكثر من معلمه في الصف؟ إن ثمة خللا كبيرا يؤذن بالأسئلة الباحثة عن إجابات والتي ستقودنا حتما لأصحاب عمر قبل أن يفخخوا أنفسهم ويظنوا أن طريقهم للجنة يمر عبر جثثنا! إن مدارس التحفيظ ومدارسنا بشكل عام تئن من فشل القيام بدورها؛ لأن الكثير من المسؤولين عنها نسوا دورها الحقيقي فأدت غيره بجدارة؛ فتكسبت منها داعش لتشعل نارا حطبها صغارنا.