حينما تتغير مقاييس الزمن وتنحسر موازينه الطبيعية، يصاب المثقفون والأدباء ومُنِتجو الفكر بحالة من اليأس والقنوط والتراجع .. وتسيطر عليهم النزعة الذاتية التي تتجاوز ساحة الصراع والمنافسة الفكرية والثقافية إلى درجة تظهر فيه روح العداوة والضغينة وتنعدم فيها أسباب الثقة وتتضخم فيها السلوكيات الخاطئة مثل الريبة والشك والتناحر الشخصي .. وبذلك تضيع أخلاقية التسامح والألفة والمحبة والنقد الموضوعي البناء بين الأدباء ورجال الفكر .وللمقارنة بما نحن فيه الآن من ضياع حقيقي للحياة الثقافية والأدبية والفكرية التي تمتاز بروح الصراع الموضوعي الهادف، وما كنا عليه إبان العشرينات وحتى الخمسينات من القرن الماضي، نجد أن أولئك الرواد كانوا خير من جسَّد أخلاقية الأدب الملتزم بالبعد الإنساني الرفيع ، فحين يعود القارئ إلى مساهمات طه حسين عندما يدحض وجهة نظر العقاد، أو حين يوجه العقاد نيران نقده البنْاء والموضوعي الخالي من التجريح والتشهير والطعن إلى شوقي أو حافظ، أو حين يستل مصطفى صادق الرافعي قلمه ليدغدغ شجون مي زيادة أو لكي يصوب سهمه إلى طه حسين أو غيره .. لم يكونوا ليفعلوا ذلك من باب العداوة أو الصراع الشخصي، وإنما من باب الواجب والفضيلة الأدبية.وكذلك الحال بالنسبة لكوكبةٍ من الكتاب والمفكرين الذين كانوا يتناطحون ويتقاتلون بالكلمة النبيلة المليئة بالحرص والمحبة، أمثال إنطوان جميل وأحمد زيادة وأحمد زكي وداوود بركات من مصر، وجبران خليل جبران وخليل مطران من لبنان، وانستاس الكرملي والزهاوي والرصافي والجواهري والبياتي من العراق وغيرهم من هذه النماذج.هذه المعارك الأدبية التي شغلت الشارع العربي يومياً لم تكن لتثير الضغائن بين المتعاركين أنفسهم أو بين أنصارهم، لأنهم كانوا يتعاملون مع بعضهم بعضاً كعائلة واحدة .. يمتشقون سلاح الفكر والقلم .. ولكن بقلوب طيبة جُبلت على حب الآخرين.كان القارئ الذي يتابع هذه المعارك يشعر الفائدة والإرتياح والمتعة الكبيرة، ويحسب نفسه مشدوداً لها، لأنها معارك فكرية تنافسية تتسم بالإبداع والحيوية والطرافة أيضاً .. أما معارك اليوم، فمع الأسف الشديد فقد تحولت إلى وسيلة تهديم وتحطيم وتهشيم للأثر الفكري والثقافي، وقد وصلت إلى مستوى التجريح الشخصي بل والتكفير أحياناً .. فهذا الأديب يُكفر أدونيس، وذاك يكفر نزار قباني، وآخر يُدخل بقرار صادق جلال العظم الى قعر جهنم بسبب آراءه التي لا تلق هوىً عنده، وهذا يرفع دعوة قضائية على زميله ويعلنها حرباً شعواء عليه مجرد إعتقاده بأنه يرد عليه .. وهناك الكثير مما لا يسع المجال لذكره بسبب الطابع المأساوي المخجل الذي يحمله، وبذلك أصبحت الساحة الثقافية والفكرية عبارة عن ساحة مصارعة وساحة ردح .. وليست ساحة إخصاب أدبي وفكري .. حتى وصل الأمر إلا أن يقوم شاعر كبير له وزنه بصفع شاعرة خليجية في فندق عام بالقاهرة .. هذه الخصومات التي كانت بين الأدباء والمفكرين والفنانين، كانت تُثري القارئ وتعطيه غذاءً روحياً وفيراً بدلاً من هذه المعارك الدونكيشوتية الوهمية التي نسمعها كل يوم، والتي تدفعنا إلى إحتقار أولئك الذين لا يعرفون وزناً للثقافة والفكر .. أما المحاورات التلفازية التي نشاهدها بين حين وآخر فقد أعطتنا دليلاً قاطعاً على فقر المفردة الأدبية بين المتحاورين، لأن بعض الفضائيات تحرص، بل وتُصر على جعل الحوار أقرب ما يكون الى صراع الديكة، مما أفسد ليس الحياة الفكرية والثقافية فقط، وإنما الحياة السياسية والاجتماعية بكل أسف.الفكر كما قال الشاعر له ثورة توقظ وجدان الإنسان ومشاعره .. وعبَّر الجواهري عن هذا الفكر قائلاً: لثورة الفكر تاريخ يُحدثنا بأن ألف مسيحٍ دونها صُلبا ** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.