اختزل الأمير الراحل سعود الفيصل الذي غيبه الموت أول من أمس، خلال أربعة عقود من تربعه على رأس الديبلوماسية السعودية واحتلاله مكان القلب من الديبلوماسية العربية، مرحلة صعبة من حياة الأمة العربية شهدت أزمات كبرى كافح خلالها الأمير الراحل بلا كلل لتذليل هذه الأزمات. ولعل أبرز هذه الأزمات والتي شكلت مصيبة كبرى على الأمة العربية جمعاء لا تزال تعيش آثارها حتى اليوم، الغزو العراقي للكويت وما تلاه من تحرك سياسي وديبلوماسي تحضيرا لحرب تحرير الكويت في 1991، حيث كان الأمير الراحل رجل المواقف المبدئية والرؤى المتكاملة التي أدت في النهاية إلى طرد الاحتلال العراقي. فقد شكل الاحتلال العراقي لدولة الكويت منعطفا كبيرا لدول المنطقة والعالم وخصوصا السعودية، فبدأ الفيصل تحركاته الديبلوماسية لإنهاء الاحتلال معلنا وقوف المملكة العربية السعودية إلى جانب الحق الكويتي. ولم تكن بداية تولي الفيصل وزارة الخارجية في العام 1975 سهلة فقد كانت متزامنة مع فترة معقدة عاشتها المنطقة، بين سجالات الحرب الباردة، والقضية الفلسطينية، ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وحالة التوتر الشديد بين العراق وإيران، قبل دخولهما في حرب امتدت قرابة ثماني سنوات وكان على الوزير حينها أن يقدر المواقف الصحيحة التي لا تبعد بلاده عن أهميتها المركزية في المنطقة. وعلى صعيد السلام بين العرب وإسرائيل شهدت الديبلوماسية السعودية في العام 2002 إعلانها عن أكبر مبادرة في هذا الصدد والتي تمثلت في خطة عربية للسلام مع إسرائيل مقابل انسحابها من كل الأراضي المحتلة وتسوية مشكلة اللاجئين. وساهم الأمير سعود في إعادة إطلاق مبادرة السلام العربية عام 2007 بعد خمس سنوات على إطلاقها في القمة العربية في بيروت. لكنه كان يميل إلى سياسة الحذر إزاء إسرائيل فهو يعتبر أن أي علاقة معها يجب أن تكون مرتبطة بحل النزاعات بين الدولة العبرية وبين الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، وذلك على أساس انسحاب كامل من الأراضي المحتلة. وبعد ما عرف بـ «الربيع العربي» الذي ضربت أحداثه عددا من الدول العربية، وفرضت جوا من عدم الاستقرار بل والفوضى على معظم الدول العربية، أصبح الفيصل وهو الذي كان يواجه مشكلات صحية أكثر نشاطا وتصديا في المجال الديبلوماسي. وسعى خصوصا إلى منع إيران من توسيع نفوذها في المنطقة في غمرة هذه الأحداث، وهو ظل يكرر في الأشهر الأخيرة السابقة لتنحيه عن وزارة الخارجية في ابريل الماضي التعبير عن القلق من تدخل إيران في سورية ولبنان واليمن والعراق، معتبرا أن «إيران تستولي على العراق». وتصدر الأمير الراحل حملة الدعوة لإزالة الرئيس السوري بشار الأسد، كسبيل لانقاذ ما يمكن انقاذه في ظل انزلاق سورية إلى فوضى عارمة. وطالب وسعى إلى إيجاد توازن عسكري على الأرض في عبر دعم المعارضة المعتدلة. وعشية الحرب الأخيرة في اليمن، قال الفيصل: «نحن لسنا دعاة حرب لكن إذا قرعت طبولها نحن جاهزون لها». وبحكم عمله كوزير للخارجية شارك الفيصل بعضوية الكثير من اللجان العربية والإسلامية مثل اللجنة العربية الخاصة ولجنة التضامن العربي واللجنة السباعية العربية ولجنة القدس واللجنة الثلاثية العربية حول لبنان ضمن وزراء خارجية الدول الثلاث وغيرها. والأمير الذي كان يجري زيارات كثيرة إلى واشنطن ويستقبل المسؤولين الأميركيين في الرياض، كان أيضا يتمتع بعلاقات متينة مع قادة أوروبيين. وكان غالبا ما يرتدي الثياب الرسمية الغربية بدل الثياب السعودية التقليدية عندما يكون خارج الدول العربية. والأمير الفيصل هو وزير الخارجية الوحيد في العالم الذي شغل منصبه لأربعة عقود متتالية. فالخارجية السعودية تولاها قبله شخصان هما إبراهيم بن عبد الله السويل (مدة أقل من عامين)، ثم والده الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز الذي تولى المنصب وهو ملك، ليخلفهما فيها بعد حقبة الفيصل مواطن من خارج الأسرة الحاكمة، هو الوزير عادل الجبير. وكان الأمير سعود أعفي من منصبه في أبريل الماضي بناء على طلبه لأسباب صحية. ولد الأمير سعود الفيصل في اكتوبر العام 1940 وتلقى تعليمه في السعودية ثم التحق بجامعة برنستون في ولاية نيوجيرسي في الولايات المتحدة حيث حصل على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد. ثم التحق الفيصل بوزارة البترول والثروة المعدنية وعمل مستشارا اقتصاديا لها وعضوا في لجنة التنسيق العليا في الوزارة وانتقل بعدها إلى المؤسسة العامة للبترول والمعادن (بترومين)، وأصبح مسؤولا عن مكتب العلاقات البترولية الذي يشرف على تنسيق العلاقة بين الوزارة وبترومين كما عين نائبا لمحافظ (بترومين) لشؤون التخطيط في العام 1970 ثم وكيلا لوزارة البترول والثروة المعدنية في العام 1971. وفي العام 1975 صدر مرسوم ملكي بتعيينه وزيرا للخارجية بعد شغور المنصب بوفاة والده. وكان الأمير الراحل يتقن سبع لغات بالإضافة إلى العربية منها الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والإسبانية والعبرية وعاصر خلال توليه منصب وزير الخارجية اربعة ملوك في بلاده. والراحل متزوج من الأميرة الجوهرة بنت فيصل بن عبد الله آل سعود وهو من الأمراء القلائل الذين لم يعددوا بالزواج، وله ثلاثة أبناء هم محمد وخالد وفهد، وثلاث بنات هن الأميرة هيفاء زوجة الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز، والأميرة لما زوجة المهندس الكويتي فهد بن عايد العنزي، والأميرة ريم.