لأبي القاسم النيسابوري كتاب شهير عنوانه «عقلاء المجانين»، رصد فيه ما ورد عن أشخاص عاشوا قبل تاريخ تأليف كتابه في القرن الرابع الهجري، وتناقل الرواة أخبارهم، فجمعها النيسابوري في كتاب واحد أصبح من أشهر كتب الأدب في التاريخ في مجاله، وقد نشرت منظمة اليونسكو مقتطفات منه ضمن مشروعها الثقافي «كتاب في جريدة» الذي اختارت جريدة الرياض وعاء له، وكان هدف اليونسكو من مشروعها الثقافي الشهري إشاعة الثقافة الجادة بين قراء الصحف اليومية في العالم العربي، ويمول المشروع أحد رجال الأعمال العرب وهو محمد بن عيسى الجابر، وقد لاحظت منذ قراءتي الأولى لكتاب عقلاء المجانين أن معظمهم شعراء وحكماء ومتصوفون ولله في خلقة شؤون! وقد تأملت في أحوال عقلاء هذا الزمان وفي تصرفات كثير منهم، فوجدت أنها تصرفات «مجنونة»، فرأيت أن أطلق عليهم صفة «مجانين العقلاء»، وتمنيت لو أن عقول هذه الفئة تصل إلى مستوى عقول أسلافهم من «عقلاء المجانين»، فأولئك كانوا أصحاب حكمة ورؤية وهيامهم على وجوههم ونشرهم لا يتعداهم إلى غيرهم، أما مجانين العقلاء فإن شرهم مستطير وجنونهم خطير وتصرفاتهم تتجاوزهم إلى غيرهم وتؤذي من حولهم، ولو أردنا الصعود إلى القمة، فلا بد من ذكر بعض مجانين العقلاء من الزعماء الذين قادوا دولهم إلى الخراب عن طريق المغامرات والبحث عن الأمجاد الشخصية الزائفة والدخول في حروب إقليمية أدت إلى إهلاك الحرث والنسل، ومع ذلك نجد أن إعلامهم يهلل لهم ويمتدح بطولاتهم ويقارنهم ويقارن معاركهم بأبطال التاريخ الإسلامي والمعارك الظافرة التي شهدها ذلك التاريخ المجيد. ومن مجانين العقلاء الذين يعيشون في السفح كل مبذر لماله مفاخر بأحواله مشبع لنزواته هائم في ملذاته فلا يفيق إلا بعد فوات الأوان «وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد»، ومن مجانين العقلاء أيضا من يحول مركبته إلى أداة قتل وتدمير لأرواح وممتلكات غيره عندما لا يلقي بالا لنظام أو خلق خلال قيادته للسيارة فيخرج من شارع فرعي إلى شارع رئيسي «كالحمار المبرطع» دون توقف أو انتظار أو يقود مركبته بسرعة فيرتكب حادثا قاتلا ومدمرا له ولغيره، ومن مجانين العقلاء الرجل المزواج الذي يفاخر بفحولته المزعومة ثم إذا ما طرح عددا كبيرا من الأبناء والبنات عجز عن تربيتهم ورعايتهم فقدم لمجتمعه مجموعة من الفاشلين والمنحرفين، ومن مجانين العقلاء من يحرق نفسه وصحته عن طريق التدخين أو يدمرها باستعمال المخدرات والمسكرات، وقد قال الشاعر الوردي في ذلك: وأترك الخمرة لا تحفل بها كيف يسعى لجنون من عقل؟ وبناء على ما تقدم ذكره من نماذج لمجانين العقلاء، فإن كل صنف منهم يحتاج إلى مجلد مستقل، ولا سيما عند الحديث عن الذين يقودون أوطانهم وشعوبهم إلى معارك ومغامرات تدمرها إشباعا للشعور بالعظمة ورغبة في دخول التاريخ فكانوا وبالا على الناس والتاريخ!؟.